العلاقات المتوسّطية في العصر الوسيط، تاريخ الدولة البيزنطية، ترجمة الفكر التاريخي الحديث؛ كانت هذه أهم المحاور التي اشتغل عليها المؤرّخ التونسي محمد الطاهر المنصوري (1955 – 2016) الذي رحل صباح اليوم.
يبدو المؤرّخون مثل اختصاصاتهم، إذ يستفيد المشتغلون على التاريخ المعاصر من الأضواء الإعلامية، بينما يبدو دارسو التواريخ البعيدة أقل شهرة، وهذا هو حال كثيرين ممن كرّسوا جهودهم في مناطق وعرة (على الأقل أقلّ طرقاً) في الدراسات التاريخية.
خيار المنصوري في التخصّص في التاريخ الوسيط قاده إلى الغوض في إحدى أهم الحضارات فيه، وهي الحضارة البيزنطية التي تمتد آثارها على كامل ضفاف وجزر البحر الأبيض المتوسط. أمدّ المؤرّخ التونسي بحوثه بأبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية، وهي بحوث تُفسِّر، من موقع داخل الحضارة البيزنطية، ما جرى في العالم في الفترة التي نعرفها بـ "الفتوحات الإسلامية" والتي كانت بالأساس تقدّماً على حساب الأرض التي كانت تهيمن عليها الحضارة البيزنطية.
على مستوى آخر، عُرف المنصوري بترجماته، والتي راوح فيها بين اختصاصاته الدقيقة ومحاولة فتح الأفق على التنظير التاريخي، حيث ترجم من الفرنسية كتاب محمد ياسين الصيد "إسكان الغريب في العالم المتوسّطي" الذي يضيء مسألة العلاقات المتوسّطية من خلال درس تاريخ المؤسّسات التي كانت تقوم على استقبال الغرباء من تجّار ورحالة في موانئ المتوسّط، وهي فضاء يُتيح النظر في عمليات التثاقف في تلك العصور.
أما أبرز ترجمات المنصوري فهما كتابا "التاريخ الجديد" و"التاريخ المفتّت"، إذ ترجم في الأول عشر مقالات تتحدّث عن أبرز توجّهات علم التاريخ حديثاً مثل "تاريخ البنى" لـ كريستوف بوميان و"الأنثروبولوجيا التاريخية" لـ أندريه بورغيار و"تاريخ الذهنيات" لـ فليب أرياس و"تاريخ المتخيّل" لـ إفلين باتلاجين.
أما كتاب "التاريخ المفتت"، فهو عمل يؤرّخ لتطوّر علم التاريخ في العصر الحديث من خلال دراسة التيارات الكبرى فيه، وهو عمل ألفه المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس. لعل هذين الكتابين يبيّنان هواجس المؤرّخ الراحل، فالبحث التاريخي العربي كان في حاجة إلى أرضية تنظيرية، وفي ظل غيابها عربياً، كان لا بد من الإتيان بها من منابع أخرى.