بينما يصنف محمد العبدالله شاعرا مُجيداً وأديباً مبدعاً وكاتباً موهوباً، فلقد كان يضيق بمهنة الأدب التي أدركته شاباً في أواسط عشرينياته في منتصف عقد سبعينيات القرن الماضي. فقد كان من ذلك الطراز الحيوي الذي يؤمن بأن الحياة أولاً، قبل التعبير عنها بالأدب والفنون عامةً. ويسهل على قارئه الوقوع على نزعة جامحة لديه لكسر أدبية الأدب ابتداءً من كسر الفصاحة، رغم ما يمتلكه من فصاحة غنية. ربما كي لا يذهب الوهم بالقارئ، بالمتلقي إلى أن في الإبداع الأدبي والفني خلاصاً ما. وقبل ذلك كي لا ينسحر القارئ بالأدب انسحارا يغفل معه عن ما هو حي وحيوي، ابتداءً من الحواس والانفعالات والغرائز وتطلبات الجسد، ويغفل معه كذلك عن الانطفاء الذي يتربص بالكائنات.
النزعة الحسية لدى محمد العبدالله، شعراً ونثراً، تنهل من نزعة عدمية، قوامها أن الطعام والشراب وكل ما ينادي الحواس، هي الأشياء الأكثر موثوقية، هي المتع الصغيرة المؤكدة في عالم مفعم بالشكوك والتناقضات والزوغان الذهني ومختلف ضروب اللايقين. وبما أن المتع الصغيرة آنية، وسرعان ما يزول أثرها، فإن العبدالله يظل يجِدّ وراء المعنى، محاولاً إدراكه وتذوّقه عبثاً، وبدون ملودراميا عاطفية تخفق فيها رايات فوز أو خذلان، بل بصياغة التجارب بلغة صريحة مقتصدة تتوجه إلى قارئ حاضر من زمانه، وليس إلى سديم.
لم يذهب العبدالله بعيداً في الحداثة المتمردة على ذاتها والمكتفية بذاتها (بعد موت المؤلف والقارئ والمعنى..) ولا تطامن مع مواضعات جارية في الشعر والإبداع عموماً، فقد ظل يحفر بحثاً عن حداثته الخاصة، وكأنما يبدأ في كل مرة من نقطة الصفر، وبغير تبشير بشيء، ولا بتسليع العدمية والاتّجار بها. فمظاهر الحياة تتجاور مع عناصر التبديد في شعره، الموت يراقص الحياة، والفصول الأربعة تجتمع تحت سقفه. إنها الحياة الخاصة بإبداعه، والتي تتجاور مع توالي الليل والنهار.
غياب العبدالله وحضوره المتواتران في العقدين الأخيرين، هما آية على هذا التوتر بين قطبي الاندفاع نحو الحياة، والإدبار عنها. والسخرية التي تنزّ من كتاباته، هي واحدة من تجليات كسر أدبية الأدب، فوق صلتها بنزعة فلسفية تأملية تلتقط المفارقات والشقوق في أكثر الأشياء التي تبدو على جانب من التماسك والصلابة.
ومع أن العبدالله نسيج ذاته في الإبداع الشعري والنثري، فإن قارئه واجدٌ أصداءً من مدرسة لبنانية تتغنى بالطبيعة وجماليات المكان الطبيعي البكر، باستثناء أنه لا يؤدلج ذلك، ومحاذراً من أن يتورط في غنائية لا تفسح كبير مجال لتجليات المعنى. أما السرد في شعره فقريب من سرد شعراء مصريين كأمل دنقل، أو سوريين مثل محمد الماغوط. إنه شعر ابن بيئته، شعر عضوي ينهل من حياة بعينها، وقد يصح القول إنه شعر مفعم بنفحات ومكونات الحياة في الشام والشرق. ولو لم يفارقنا العبدالله لاتهمني بطريقته المُحبة المتهكّمة بأني أنعت شعره بالفولكلوري!، علماً أن شعره أبعد ما يكون عن الفولكلور، فكل شيء يتخلق على نحو جديد في شعره من كائنات وجماليات ومظاهر الحياة، ولا يستند في ذلك إلى أية مثالات أو مطلقات سابقة عليه.
ما أن برزت ظاهرة شعراء الجنوب (اللبناني) أواسط سبعينيات القرن الماضي، حتى ظهر اسم محمد العبدالله بين مجايليه كشاعر متفرد، والحق أن بقية الشعراء من عباس بيضون إلى شوقي بزيع وحسن عبدالله وحمزة عبود، هم بدورهم شعراء متفردون، كل منهم ينطوي على فرادته الخاصة. كانت لمحمد حداثته الخاصة، العضوية بالمعنى الحيوي لا البيولوجي بالطبع!
لطالما ضاق أكثر ما ضاق بالشعر الذي ينطلق من ارتسامات ذهنية ليس إلا، ليخاطب ذهن القارئ حصراً. فالشاعر الكائن في الحياة "يتعين" أن يكتب شعرا في الحياة ولها ومنها وإلى جوارها وبقوّتها. شعر ينبض ويتنفس ويلبط ويشمخ مثل الكائنات. ولم يتردد في الإتيان على ذكر الأطعمة والمشروبات والفواكه، باعتبارها من عطايا الحياة الثمينة، مع الرفع من شأن التذوق الحسي ومضاهاته بتذوق الأمور المعنوية. إنه أبيقوري حكيم بنسخة محدثة! على أنه يبدو لكاتب هذه الكلمات أن الحياة لم تُحب محمد بالقدر الذي أحبّها به، فكان عليه أن يعاكس قلبه قليلا، ولا يمحضها ذلك الحب كله.
الشاعر الصخاب الأكول الشروب نديم أصحابه وأنيسهم والمستأنس بهم، توفّر منذ البدء على حس رؤيوي، فقد افتتح ديوانه الأول "رسائل الوحشة" بمشهديات من مسرح شعري بعنوان "الفصل الأول من مصرع دون كيشوت":
دون كيشوت يقاتل أشباحاً يدعوها الإمبريالية
دون كيشوت يقاتل في اليقظة وفي الأحلام
يستيقظ حين يكون الناس نيام
في عام 1979 كان الشاعر، وهو ابن بيئة اليسار، يرثي دونيكيشية اليسار، وقبل أن ينكسر هذا الاتجاه الراديكالي، وتتبدى أعطابه للرائين.
كان محمد العبدالله من السخرية والروح العابثة بمكان، بحيث يبدو له الموت لعبة مبهمة مغرية، مثلما هي الحياة سواء بسواء.
حين بلغني نبأ موته، هتفت في دخيلتي: لقد فعلها، فهو ملول، مجازف، ومولع بالتجاريب القصوى.
"أبالسة هادئون/ يسيرون خلف الجنازة/ يشيرون بأصابعهم نحوي/ ثم.. يميلون إلى بعضهم/ يهمسون كلاما/ ويبتسمون".
عسى أنلا يكون القارئ وأنا من الأبالسة.
أما الإهداء الذي كتبته لي لديوانك "بعد قليل من الحب، بعد الحب بقليل" في عمّان 16 مايو 2005 فسأظل أعاود قراءته بين حين وآخر "نلتقي في الجنّة، حيث سيكون لدينا بعض الوقت..".
سأكون على الموعد هناك يا صديقي، إذا قادتني المشيئة إلى الجنة.
النزعة الحسية لدى محمد العبدالله، شعراً ونثراً، تنهل من نزعة عدمية، قوامها أن الطعام والشراب وكل ما ينادي الحواس، هي الأشياء الأكثر موثوقية، هي المتع الصغيرة المؤكدة في عالم مفعم بالشكوك والتناقضات والزوغان الذهني ومختلف ضروب اللايقين. وبما أن المتع الصغيرة آنية، وسرعان ما يزول أثرها، فإن العبدالله يظل يجِدّ وراء المعنى، محاولاً إدراكه وتذوّقه عبثاً، وبدون ملودراميا عاطفية تخفق فيها رايات فوز أو خذلان، بل بصياغة التجارب بلغة صريحة مقتصدة تتوجه إلى قارئ حاضر من زمانه، وليس إلى سديم.
لم يذهب العبدالله بعيداً في الحداثة المتمردة على ذاتها والمكتفية بذاتها (بعد موت المؤلف والقارئ والمعنى..) ولا تطامن مع مواضعات جارية في الشعر والإبداع عموماً، فقد ظل يحفر بحثاً عن حداثته الخاصة، وكأنما يبدأ في كل مرة من نقطة الصفر، وبغير تبشير بشيء، ولا بتسليع العدمية والاتّجار بها. فمظاهر الحياة تتجاور مع عناصر التبديد في شعره، الموت يراقص الحياة، والفصول الأربعة تجتمع تحت سقفه. إنها الحياة الخاصة بإبداعه، والتي تتجاور مع توالي الليل والنهار.
غياب العبدالله وحضوره المتواتران في العقدين الأخيرين، هما آية على هذا التوتر بين قطبي الاندفاع نحو الحياة، والإدبار عنها. والسخرية التي تنزّ من كتاباته، هي واحدة من تجليات كسر أدبية الأدب، فوق صلتها بنزعة فلسفية تأملية تلتقط المفارقات والشقوق في أكثر الأشياء التي تبدو على جانب من التماسك والصلابة.
ومع أن العبدالله نسيج ذاته في الإبداع الشعري والنثري، فإن قارئه واجدٌ أصداءً من مدرسة لبنانية تتغنى بالطبيعة وجماليات المكان الطبيعي البكر، باستثناء أنه لا يؤدلج ذلك، ومحاذراً من أن يتورط في غنائية لا تفسح كبير مجال لتجليات المعنى. أما السرد في شعره فقريب من سرد شعراء مصريين كأمل دنقل، أو سوريين مثل محمد الماغوط. إنه شعر ابن بيئته، شعر عضوي ينهل من حياة بعينها، وقد يصح القول إنه شعر مفعم بنفحات ومكونات الحياة في الشام والشرق. ولو لم يفارقنا العبدالله لاتهمني بطريقته المُحبة المتهكّمة بأني أنعت شعره بالفولكلوري!، علماً أن شعره أبعد ما يكون عن الفولكلور، فكل شيء يتخلق على نحو جديد في شعره من كائنات وجماليات ومظاهر الحياة، ولا يستند في ذلك إلى أية مثالات أو مطلقات سابقة عليه.
ما أن برزت ظاهرة شعراء الجنوب (اللبناني) أواسط سبعينيات القرن الماضي، حتى ظهر اسم محمد العبدالله بين مجايليه كشاعر متفرد، والحق أن بقية الشعراء من عباس بيضون إلى شوقي بزيع وحسن عبدالله وحمزة عبود، هم بدورهم شعراء متفردون، كل منهم ينطوي على فرادته الخاصة. كانت لمحمد حداثته الخاصة، العضوية بالمعنى الحيوي لا البيولوجي بالطبع!
لطالما ضاق أكثر ما ضاق بالشعر الذي ينطلق من ارتسامات ذهنية ليس إلا، ليخاطب ذهن القارئ حصراً. فالشاعر الكائن في الحياة "يتعين" أن يكتب شعرا في الحياة ولها ومنها وإلى جوارها وبقوّتها. شعر ينبض ويتنفس ويلبط ويشمخ مثل الكائنات. ولم يتردد في الإتيان على ذكر الأطعمة والمشروبات والفواكه، باعتبارها من عطايا الحياة الثمينة، مع الرفع من شأن التذوق الحسي ومضاهاته بتذوق الأمور المعنوية. إنه أبيقوري حكيم بنسخة محدثة! على أنه يبدو لكاتب هذه الكلمات أن الحياة لم تُحب محمد بالقدر الذي أحبّها به، فكان عليه أن يعاكس قلبه قليلا، ولا يمحضها ذلك الحب كله.
الشاعر الصخاب الأكول الشروب نديم أصحابه وأنيسهم والمستأنس بهم، توفّر منذ البدء على حس رؤيوي، فقد افتتح ديوانه الأول "رسائل الوحشة" بمشهديات من مسرح شعري بعنوان "الفصل الأول من مصرع دون كيشوت":
دون كيشوت يقاتل أشباحاً يدعوها الإمبريالية
دون كيشوت يقاتل في اليقظة وفي الأحلام
يستيقظ حين يكون الناس نيام
في عام 1979 كان الشاعر، وهو ابن بيئة اليسار، يرثي دونيكيشية اليسار، وقبل أن ينكسر هذا الاتجاه الراديكالي، وتتبدى أعطابه للرائين.
كان محمد العبدالله من السخرية والروح العابثة بمكان، بحيث يبدو له الموت لعبة مبهمة مغرية، مثلما هي الحياة سواء بسواء.
حين بلغني نبأ موته، هتفت في دخيلتي: لقد فعلها، فهو ملول، مجازف، ومولع بالتجاريب القصوى.
"أبالسة هادئون/ يسيرون خلف الجنازة/ يشيرون بأصابعهم نحوي/ ثم.. يميلون إلى بعضهم/ يهمسون كلاما/ ويبتسمون".
عسى أنلا يكون القارئ وأنا من الأبالسة.
أما الإهداء الذي كتبته لي لديوانك "بعد قليل من الحب، بعد الحب بقليل" في عمّان 16 مايو 2005 فسأظل أعاود قراءته بين حين وآخر "نلتقي في الجنّة، حيث سيكون لدينا بعض الوقت..".
سأكون على الموعد هناك يا صديقي، إذا قادتني المشيئة إلى الجنة.