"هكذا/ كانَ يغني الموتُ/ حولَ الْعربة"، وهكذا، وحيداً وغريباً يرحل الْفَيتوري (1930 - 2015). تأتي القصيدة شاعرَها وحيدةً غريبة، أتُراها تهمس في روحِه وقتذاك: سترحل يا حبيبي كما جئتك، وحدكَ تصحبك غربتك.
كانت تسكنه أرواح شتى، وكأنه تلكم المرأة التي قال مكسيم غوركي في روايته "قصة حياة ماتيفي كوزيمياكين"، إنَّ في جوفها واحدة وعشرين روحاً، ولن يهدأ بالها حتى تنجب واحداً وعشرين طفلاً وطفلة. كتبَ قصائد كثيرة، أكثرَ بكثير من أرواحه الواحدة والعشرين، ولكن ما هدأت روحه التي وزَّعها بين أكثر من بلد: السُّودان وليبيا ومصر و.. المغرب آخر المطاف.
يا لصخب الحياة التي عاشها هنا وهناك، سكنته أفريقيا حيناً من النَّشيد وكانت مجموعاته الشعرية الأولى تلهج باِسمها "أغاني أفريقيا" (1956) و"عاشق من أفريقيا" (1964) و"اذكريني يا أفريقيا" (1965) ومسرحية "أحزان أفريقيا" (1966).
شغلت قصائده البلاد العربية حيناً من التطواف والتجوال والذيوع والانتشار، ومدح من مدح من حاكميها، متناسياً ما وصمتهم به أناشيده: "لِماذا يظُنُّ الطُّغاةُ الصِّغار/ وتشحُبُ ألوانُهم/ أنّ موتَ الْمُناضِلِ موتُ الْقضيَّة/ أعلَمُ سِرَّ احتكامِ الطُّغاةِ إلى الْبُندقيَّة/ لا خائفاً/ إنَّ صوتيَ مشنقةُ للطُّغاةِ جميعاً ولا نادِماً/ إنَّ روحيَ مُثقَلةٌ بالْغضَبْ/ كُلُّ طاغيةٍ صَنَمٌ/ دُميَةٌ مِنْ خَشَبْ".
وجاءَ إلى الخرطوم قبل سنوات، كانت زيارته الأخيرة لها، ومدح هناك أيضاً، فاحتفى به مادحه ومنحه وساماً. وأغضب وأحزن ذلك مُحبيه من الشّعراء والغاوين. كيف لا، وهم يكادون يحفظون قصائد ديوانه الطاغي في ثوريَّتِه "أقوالُ شاهِدِ إثبات"، وقصيدتيه في ثورتيْ أكتوبر 1964 وأبريل 1985 "عُرس الفداء" و"لحظة من وسن" و"أصبح الصبحُ" والتيِ تغنَّى بها فنَّان السُّودان محمَّد وَردي: "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق/ وإذا الفجر جناحان يرفان عليك/ وإذا الحسن الذي كحل هاتيك المآقي/ التقى جيل البطولات بجيل التضحيات/ التقى كل شهيد قهر الظلم ومات/ بشهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات". كما تغنى بقصائد ثوريَّة أخرى له الفنَّان أبو عَركي الْبخيت.
ثوريَّة ترنو لها من الضفة الأخرى صُوفيَّته العذبة متجلّيَةً في ديوانه "معزوفَة درويش متجوّل": "في حَضرةِ مَنْ أهوى، عبَثَتْ بي الأشواقْ/ حدَّقتُ بلا وجْهٍ، ورقصتُ بلا ساقْ/ وزحَمتُ بِراياتي وطُبولي الآفاقْ/ عِشْقي يُفني عِشْقي، وفنائي استغراقْ/ مَملُوكُكَ لكنِّي، سُلطانُ الْعُشَّاقْ".
ولا أعلم أحداً سوى السودانيين تغنَّى بأشعار الفيتوري، وهذه القصيدة غنَّاها الفنَّان عبد الكريم الكابلي وهو من غنّى قصائد للمتنبي وأبي فراس الحمداني والعقَّاد وآخرين.
حين يسأل عن صُوفيَّته يجيب الفيتوري: "كان والدي من كبار رجال الصُّوفية، وقد عاينتُها طفلاً وصبيَّاً، وحفظتُ القُرآنَ كُلَّه عن ظهرِ قلب في تلك الفترة. لذلك فإنَّ لجوئي إلى الصُّوفِيَّة ليس لجوءاً ثقافيَّاً أو فلسفيَّاً أو فنيَّا لمجرَّد البحث عن أفق جديد. إنَّ صُوفِيَّةَ الشَّاعر أو شاعريَّة الصُّوفي الذي أتكلَّم عنه موقف إنسانيّ إيجابيّ واعٍ مُدرِك، وليس موقف الدَّرويش الْمُنجذِب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة، والأحاسيس التجريديَّة العمياء. إنَّه الصُّوفي الثوري، وليس الصُّوفي المتهالك المهزوم".
لم يعرف أكثر أهل الحرف والقراء العرب شاعراً آخر من السودان، كما عرفوا الفيتوري، حتى حينما كان الشعر هو الأعلى صوتاً وصيتاً على سائر أجناس الكتابة الأخرى. أجل، هنالك أسماء شعرية كبيرة في السودان، لكن ما كان لها من معرفة البلاد العربية بها إلّا النزر اليسير ممّا ناله، وعن جدارة واستحقاق، الفيتوري.
ولعله مما يحزّ في النفس أن أسماء شعرية كبيرة في السودان، سادت وتسود قصائدها إلى الآن فيه، ولكنك تسأل عنها شعراء وقراء من البلاد العربية، فلا تحسّ لها أثراً... كيف وقد رحل أكثر هؤلاء الشعراء: محمد المهدي المجذوب ومحمد عبد الحي ومصطفى سند وصلاح أحمد إبراهيم على سبيل المثال ليس إلا.
كيف كانت علاقته بـ مُعمَّر القذافي وآخر عهده به؟! انتهى الأخير ودفع حياته تلك ثمناً لِتشبُّثه الأعمى بالسُّلطة، وحسبَ الحاسبونَ الفَيتوري رقماً من أرقام عهده، وانتهى الأمر بالشَّاعر وحيداً وغريباً ومريضاً في المغرب. تنادى محبُّوه من الكُتَّاب السُّودانيين وقارئيه ليفعلوا شيئاً يُعينوا به شاعراً في آخِر أنفاسِ قصيدتِه. وهاهو ينأى عن كُلِّ ذلك وصَمتٌ، لا يُشبه في شيء دويَّ قصيدته يلفُّه (لعل الفيتوري من أحسن الشعراء العرب إلقاءً لقصائدهم، إن لم يكن أحسنهم)، ويلُفُّ مشهداً شعريَّاً سيشغر من بعده إلى حينٍ يطول..