02 نوفمبر 2024
محمد حسنين هيكل... الإيراني
من يقرأ حوار طلال سلمان مع محمد حسنين هيكل في "السفير"، قبل أيام، يخال أن المتحدث هو أحد أركان مجمع تشخيص مصلحة النظام، أو أحد كبار المستشارين الرئاسيين الإيرانيين المفعمين بروح قومية طامحة وثّابة. فالرجل لا يرى طرفاً إيجابياً وقوياً وحضارياً وثوريا بالطبع في المنطقة سوى إيران ونظام الجمهورية الإسلامية فيها. وما دام الحال على هذا النحو، فليس ثمّة في نظام طهران وبنيته وأدائه وخطابه ما قد تشوبه شائبة. ولذلك، يُطنِب "الأستاذ" في سرد المزايا والسجايا الإيرانية، جامعاً بين الأبعاد الحضارية والثقافية والسياسية والاستراتيجية التي تتحلى بها إيران، دوناً عن غيرها، مع تعريج طفيف على تركيا ورجب طيب أردوغان "التركي العثماني".
وفي معرض رسمه صورة زاهية قشيبة متألقة لهذا البلد، لا يأتي الرجل أبداً على ذكر شعب إيران، وما إذا كان حراً سعيداً، متمتعاً بحقوقه الأساسية كما يُفترض، ما دام هذا الشعب ينعم بنظامٍ لا سابق له في الجودة والامتياز. ولا يعرج الأستاذ أبداً على وضع تصور لعلاقات إيرانية عربية، يستطيع معها العرب الإفادة من النظام الإيراني النموذجي مع الاحتفاظ باستقلالهم، مكتفياً بوصف دول الخليج بأنها "متخلفة"، أما بقية العالم العربي فينوء تحت وطأة الفراغ.
ومن أمثلته أن "الغرب نجح في أن يجعل العراق بؤرة عزل لإيران"، وهو مثال يعاكس الواقع، فالسياسات الأميركية والغربية في العراق مكّنت إيران من جعل بلاد الرافدين نقطة ارتكاز لها ومنصة انطلاق نحو دول أخرى، لكن الرجل، بعقله "الإيراني"، يستطيع ان يُصوّر الاجتياح الإيراني بأنه عزلٌ لإيران. ومن أمثلته الأخرى أن أميركا تريد تغيير النظام في سورية. وبهذا، فقد سمع هيكل بموجة الربيع العربي في نسختها المصرية، أما النسخة السورية فلم تصل إلى مسامعه، على الرغم من إحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وعلى هذا ففي سورية قوتان: النظام وأميركا. وكالعادة، لا يوجد شعب. وفي هذه الحالة، لا يوجد شعب سوري. وهذه الطريقة في التفكير والرؤية تأخذ بها إيران طبعاً، وحزب الله في إنكار وجود شعب سوري. فحزب الله، حسب هيكل، يدافع عن نفسه في سورية، وأبعد من ذلك، فليس في إمكانه التغلغل في العالم العربي، وعلينا أن نعذر السيد حسن نصر الله. يقول هيكل: "صحيح أن لدى السيد حسن نصر الله إشعاعاً معيناً في لبنان وخارجه. لكن، لا تحمّله أكثر مما يطيق، فليست لديه القدرة على التحرك والحركة خارج حدود لبنان. صحيح أن لديه سمعة جيدة، ولكن السمعة لا تشكل، بحد ذاتها، قوة تقاتل على الأرض". هكذا يقول هيكل، وكأنه في حوار داخلي بين أركان الحكم في طهران: بين من يطلبون من حزب الله المضي قُدُما في العراق واليمن وسواهما، وبين من يلتمس العذر للحزب، لأن ظروفه وإمكاناته لا تسعفه على تحقيق هذا الهدف، وهيكل من الفريق الثاني.
لكن، ما هو سر ولع هيكل بإيران؟ ليس هناك سر، فالأمر يتعلق بـ "وجود نظام ثوري خارج على الطاعة الأميركية، ويمارس سياسة مستقلة". ليس للثورة من وصف أو مضمون أو هوية إيديولوجية عند هيكل سوى: مناوأة أميركا. وأياً كانت طبيعة النظام المناوئ، فهو ثوري بالقوة والفعل. ليس مُهمّاً إن كان رجال الدين هم من يحكمون، وما إذا كانت الأقليات القومية والدينية بأمان أم لا، أو إن كانت المعايير الديمقراطية المعتمدة قريبة من المعايير الكونية، أم هي خداع ديمقراطي، ليس مُهماً إذا كانت ثمرات التنمية والدخل موزعة على الناس بعدالة، وليس مهماً سِجِل هذه الدولة، أو تلك، في حقوق الإنسان. وقبل ذلك وبعده، ليس مهماً أن يحترم هذا البلد جيرانه وكياناتهم وخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية، وما إذا كان يمتلك نزعة تدخلية أم لا في شؤون الغير.. ذلك كله وغيره ليس ذا أهمية من قريب أو بعيد، فالأهمية تنعقد وتتمحور حول مناوأة اميركا، وانتهاج سياسة مستقلة عنها، حتى لو كان الأمر في الحالة الإيرانية قائما على النسج على المنوال الأميركي نفسه في التدخل بشؤون الآخرين، والسعي إلى بسط النفوذ بالقوة والهيمنة والتأليب والعبث بالنسيج الاجتماعي وبسيادة الدول. هذه أمور تفصيلية أو جانبية لا تستوقف هيكل، فمعقد اهتمامه هو الشؤون الاستراتيجية فحسب. والعالم بالنسبة له حلبة صراع ليس غير، بين أميركا (ومن هم معها) ومن يناوئونها.
يجدد هيكل ثقافة الحرب الباردة، وكأن هذه الحرب لم تنته. فالصراع كان قائماً بين الرأسمالية والاشتراكية، والآن هو صراع قومي حضاري، كما يستدل من حديثه وبالأسلحة الفتاكة نفسها. وعلى الرغم من أن الكبار النوويين يمتلكون استراتيجية لتخفيض مستوى هذه الأسلحة، فقد بدا هيكل متعاطفاً، إن لم يكن مؤيداً طموحات إيران النووية، ومستخفّاً بأي اعتراض على ذلك، وخصوصاً ما يسميه "الشغب الخليجي".
لفترة طويلة، ولقربه من الرئيس الراحل عبد الناصر، بدا هيكل ذا نزوع عروبي مكين، يستند إلى مركزية مصر وقيادتها. في سنواته الأخيرة، بدا الرجل شرق أوسطياً، لا يرى في المنطقة سوى مصر وإيران، وبدرجة أقل تركيا. والآن مصر "منشغلة"، وإن كانت "أحوالها لا بأس بها كما يقول"، وتركيا عثمانية، أما إيران فهي الوحيدة المستقلة. يريد هيكل من العرب أن يكونوا مستقلين على الطريقة الإيرانية عن أميركا، وهذه وجهة نظر تستحق سماعها، لكنه يزهد زهداً كبيراً بأن يكون العرب مستقلين عن إيران نفسها، فالرجل بات في حالة أقرب ما تكون إلى تصوف سياسي في مزار إيراني. العقل "الاستراتيجي" لهيكل يذهب به هذا المذهب، فالنزعة التدخلية التوسعية لطهران في العالم العربي لا تستوقفه، فما دام جوهر السياسة الإيرانية سليماً وثورياً، وهو مناوأة أميركا، فلأصحابها أن يفعلوا ما يحلو لهم. وعلى ذلك، فهو يقف ضد "عاصفة الحزم" التي اندلعت في وجه ذراع إيران في اليمن، وهم الانقلابيون الحوثيون، فلا بأس من انقلاب هؤلاء على الثورة اليمنية، وعلى إرادة الشعب اليمني، ما داموا يناوئون أميركا، وعلى السعودية ألا تتدخل. لإيران وحدها الحق في التدخل عبر وكلائها في هذا البلد.
شيء واحد وجوهري يفوت السيد هيكل، وهو أن على من يرغب بانتزاع شهادة تقدير على مناوأته أميركا السيئة، عليه أن يكون أفضل منها سياسياً وحضارياً وثقافياً وأخلاقياً في نظرته لحقوق لشعوب والدول، وللثقافات والخصوصيات السياسية والحضارية، فلا يكفي، أبداً، أن يكون أحد مناوئا لأميركا كي ينال الجدارة.
ومن أمثلته أن "الغرب نجح في أن يجعل العراق بؤرة عزل لإيران"، وهو مثال يعاكس الواقع، فالسياسات الأميركية والغربية في العراق مكّنت إيران من جعل بلاد الرافدين نقطة ارتكاز لها ومنصة انطلاق نحو دول أخرى، لكن الرجل، بعقله "الإيراني"، يستطيع ان يُصوّر الاجتياح الإيراني بأنه عزلٌ لإيران. ومن أمثلته الأخرى أن أميركا تريد تغيير النظام في سورية. وبهذا، فقد سمع هيكل بموجة الربيع العربي في نسختها المصرية، أما النسخة السورية فلم تصل إلى مسامعه، على الرغم من إحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وعلى هذا ففي سورية قوتان: النظام وأميركا. وكالعادة، لا يوجد شعب. وفي هذه الحالة، لا يوجد شعب سوري. وهذه الطريقة في التفكير والرؤية تأخذ بها إيران طبعاً، وحزب الله في إنكار وجود شعب سوري. فحزب الله، حسب هيكل، يدافع عن نفسه في سورية، وأبعد من ذلك، فليس في إمكانه التغلغل في العالم العربي، وعلينا أن نعذر السيد حسن نصر الله. يقول هيكل: "صحيح أن لدى السيد حسن نصر الله إشعاعاً معيناً في لبنان وخارجه. لكن، لا تحمّله أكثر مما يطيق، فليست لديه القدرة على التحرك والحركة خارج حدود لبنان. صحيح أن لديه سمعة جيدة، ولكن السمعة لا تشكل، بحد ذاتها، قوة تقاتل على الأرض". هكذا يقول هيكل، وكأنه في حوار داخلي بين أركان الحكم في طهران: بين من يطلبون من حزب الله المضي قُدُما في العراق واليمن وسواهما، وبين من يلتمس العذر للحزب، لأن ظروفه وإمكاناته لا تسعفه على تحقيق هذا الهدف، وهيكل من الفريق الثاني.
لكن، ما هو سر ولع هيكل بإيران؟ ليس هناك سر، فالأمر يتعلق بـ "وجود نظام ثوري خارج على الطاعة الأميركية، ويمارس سياسة مستقلة". ليس للثورة من وصف أو مضمون أو هوية إيديولوجية عند هيكل سوى: مناوأة أميركا. وأياً كانت طبيعة النظام المناوئ، فهو ثوري بالقوة والفعل. ليس مُهمّاً إن كان رجال الدين هم من يحكمون، وما إذا كانت الأقليات القومية والدينية بأمان أم لا، أو إن كانت المعايير الديمقراطية المعتمدة قريبة من المعايير الكونية، أم هي خداع ديمقراطي، ليس مُهماً إذا كانت ثمرات التنمية والدخل موزعة على الناس بعدالة، وليس مهماً سِجِل هذه الدولة، أو تلك، في حقوق الإنسان. وقبل ذلك وبعده، ليس مهماً أن يحترم هذا البلد جيرانه وكياناتهم وخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية، وما إذا كان يمتلك نزعة تدخلية أم لا في شؤون الغير.. ذلك كله وغيره ليس ذا أهمية من قريب أو بعيد، فالأهمية تنعقد وتتمحور حول مناوأة اميركا، وانتهاج سياسة مستقلة عنها، حتى لو كان الأمر في الحالة الإيرانية قائما على النسج على المنوال الأميركي نفسه في التدخل بشؤون الآخرين، والسعي إلى بسط النفوذ بالقوة والهيمنة والتأليب والعبث بالنسيج الاجتماعي وبسيادة الدول. هذه أمور تفصيلية أو جانبية لا تستوقف هيكل، فمعقد اهتمامه هو الشؤون الاستراتيجية فحسب. والعالم بالنسبة له حلبة صراع ليس غير، بين أميركا (ومن هم معها) ومن يناوئونها.
يجدد هيكل ثقافة الحرب الباردة، وكأن هذه الحرب لم تنته. فالصراع كان قائماً بين الرأسمالية والاشتراكية، والآن هو صراع قومي حضاري، كما يستدل من حديثه وبالأسلحة الفتاكة نفسها. وعلى الرغم من أن الكبار النوويين يمتلكون استراتيجية لتخفيض مستوى هذه الأسلحة، فقد بدا هيكل متعاطفاً، إن لم يكن مؤيداً طموحات إيران النووية، ومستخفّاً بأي اعتراض على ذلك، وخصوصاً ما يسميه "الشغب الخليجي".
لفترة طويلة، ولقربه من الرئيس الراحل عبد الناصر، بدا هيكل ذا نزوع عروبي مكين، يستند إلى مركزية مصر وقيادتها. في سنواته الأخيرة، بدا الرجل شرق أوسطياً، لا يرى في المنطقة سوى مصر وإيران، وبدرجة أقل تركيا. والآن مصر "منشغلة"، وإن كانت "أحوالها لا بأس بها كما يقول"، وتركيا عثمانية، أما إيران فهي الوحيدة المستقلة. يريد هيكل من العرب أن يكونوا مستقلين على الطريقة الإيرانية عن أميركا، وهذه وجهة نظر تستحق سماعها، لكنه يزهد زهداً كبيراً بأن يكون العرب مستقلين عن إيران نفسها، فالرجل بات في حالة أقرب ما تكون إلى تصوف سياسي في مزار إيراني. العقل "الاستراتيجي" لهيكل يذهب به هذا المذهب، فالنزعة التدخلية التوسعية لطهران في العالم العربي لا تستوقفه، فما دام جوهر السياسة الإيرانية سليماً وثورياً، وهو مناوأة أميركا، فلأصحابها أن يفعلوا ما يحلو لهم. وعلى ذلك، فهو يقف ضد "عاصفة الحزم" التي اندلعت في وجه ذراع إيران في اليمن، وهم الانقلابيون الحوثيون، فلا بأس من انقلاب هؤلاء على الثورة اليمنية، وعلى إرادة الشعب اليمني، ما داموا يناوئون أميركا، وعلى السعودية ألا تتدخل. لإيران وحدها الحق في التدخل عبر وكلائها في هذا البلد.
شيء واحد وجوهري يفوت السيد هيكل، وهو أن على من يرغب بانتزاع شهادة تقدير على مناوأته أميركا السيئة، عليه أن يكون أفضل منها سياسياً وحضارياً وثقافياً وأخلاقياً في نظرته لحقوق لشعوب والدول، وللثقافات والخصوصيات السياسية والحضارية، فلا يكفي، أبداً، أن يكون أحد مناوئا لأميركا كي ينال الجدارة.