07 نوفمبر 2024
محمد مرسي وحظوظ الشهادة
كان محمد مرسي، قبل الثورة، نائباً في البرلمان المصري، بموجب سلوك اعتمده "الإخوان المسلمون" في عهد حسني مبارك، يقضي بإعطاء شيء من الصدارة للتنظيم الإسلامي، مقابل مهادنةٍ نسبية للنظام. هو وزملاؤه من النواب الثمانية والثمانين كانوا حاضرين بقوة في برلمان العام 2005. وعشية الثورة، عام 2010، امتنعوا عن خوض الانتخابات النيايبة، لما انطوى عليه قانون تنظيمها من مواد اعتبروها وقتها تزويراً مسبقاً لنتائجها. بعد الثورة، ترشّح مرسي لانتخابات الرئاسة، مكان خيرت الشاطر الذي رفضه العسكر، بسبب "بروفايله" عالي النبرة والدهاء؛ قبلوا بترشّحه لما يتّسم به من قلّة حضور، فكانت انتخابات حامية. إلى جانب مرسي، ترشّحت وجوه متنوِّعة: أحمد شفيق عن العسكر، حمدين صباحي عن الناصريين والتقدميين، عبد المنعم أبو الفتوح عن الإسلاميين المتنوِّرين، وعمرو موسى عن البيروقراطية الرسمية. لم يفُز فيها مرسي بالحظ، او بالتزوير، أو البلطجة. إنما كانت إنتخاباتٍ نظيفة، نزيهة، بشهادة العدو والصديق. تواجه في دورتها الثانية مع مرشح العسكر، أحمد شفيق، وفاز بـ51% من الأصوات. وهذه الخطوة الأولى نحو قدر محمد مرسي.
كادت الخطوة الثانية أن تعرقل مسيرة قدره. فور صعوده إلى الرئاسة، والأرجح بدافعٍ من صراع نصفٍ مستترٍ مع العسكر، أصدر مجموعة قرارات وتعديلات دستورية، جَفَل منها المصريون ونَفَروا، لما تنطوي عليه من جموحٍ سلطوي، ومن أسلمةٍ مغاليةٍ في الدستور، لكنه لم يوفّق بتطبيقها، ولا في إنجاحها أو إفشالها. عام واحد فقط على رئاسته؛ والعسكر ضجّوا من هذا الجموح، ورأوا فيه تهديداً مباشراً لسلطتهم التي لم تضعفها الثورة، فشنّوا حملة تهميش، وصراع ميداني على الأرض، ردّ عليهم "الإخوان" باعتصام شعبي في ساحة رابعة العدوية، انزعج منه العسكر، فقاد هؤلاء هجوماً مسلحاً عليه، وقتلوا مئات من المعتصمين. ثم "ثورة" ثانية، معلّبة، مؤطّرة، ممَسْرحة، أخرجت "الإخوان المسلمين" من الشرعية السياسية إلى المطارَدة القانونية. وأفضت إلى ما يزيد عن الألف قتيل، عن آلاف الموقوفين، ومئات المنْفيين الهاربين من شيْطَنتهم وملاحقتهم أينما ولّوا وجوههم.
شراسة قائد العسكر، عبد الفتاح السيسي، في محو أي أثرٍ "إخواني" في الإطار الشرعي
والعلني؛ ثم اعتقال محمد مرسي وزملائه من قياديين وغير قياديين. هذه ضربة أخرى من القدر بحق مرسي، استمرت سبعة أعوام. ورفعت من منسوبها الاتهامات الباطلة الموجّهة إليه، من نوع التجسّس لصالح حركة حماس، وعقوبات وتأبيد ووعيد بالإعدام. لكن الموضوع لم يقتصر على ذلك. قارِن مثلاً بين حبسي حسني مبارك ومرسي، سوف تلاحظ تمييزاً صارخا بحق الثاني. مقابل مبارك، العسكري أصلاً، الذي نَعَم بكل التسهيلات الطبية والعائلية الممكنة، ثم خروجه، بعدما "قضى محكوميته" بتهمة فسادٍ مقنّنة... كيف عاش الإخواني مرسي، طوال السنوات الست هذه من السجن؟ في الانفرادي مدة طويلة، في الحرمان من العلاج، هو المُصاب بالسكري، وبعد ذلك بألوانٍ من الأمراض أصيب بها في أثناء هذا الاعتقال، بالحرمان من لقائه بعائلته ومحاميه. بمعنى آخر، إنه قُتل على نار خافتة، وعُذِّب صحياً ومعنوياً، وربما جسدياً. حاول، في آخر جلسة محكمة معه، أن يقول شيئاً، أن يقول كم هو مظلوم، كم هو محرومٌ من حقوقه الطبيعية البديهية. ولكن النار الخافتة بلغت خلاياه، فانهار، ومات في لحظتها، أو لحظة وصوله إلى المستشفى، فكان القرار العسكري بمنع العزاء عنه، وبدفنه ليلاً في المكان المخصّص لضحايا العسكر من "الإخوان المسلمين"؛ خلافا لوصيته بدفنه في قريته، فكان دفناً حزيناً، قرّر العسكر أن يقتصر حضوره على زوجته واثنين من أولاده واثنين من أشقائه.
ضِباع الإعلام الممْسوك من العسكر لم يقصّروا في إهانة موته، بعدما هلّلوا لمظلوميته. تجاهلوه، زوّروا التاريخ، بأنهم لم يتجشّموا عناء الإشارة، ولو المقتضبة، بأنه كان في يوم رئيساً لجمهورية مصر. تناوبوا على عضّه، على شتمه، على تسويد وجهه، بصراخٍ عالٍ لكي يسمع العسكر جدّياً كم هم موالون لهم.
وإذا أردتَ ان تختصر هذه المسيرة، يمكنكَ القول إن محمد مرسي، رئيس جمهورية مصر
الإخواني المنتخَب، لم يُتَح له أن "يحكم"، أن يختبر آراءه الإخوانية على أرض الواقع، وتوازنات القوى، والممكن والمستحيل.. وأن يُخفق في تطبيق هذه الآراء. لم يُتح له خوض الصراع السياسي حول شهية تنظيمه لمزيد من السلطة، بل استأصله العسكر بحمّام من الدم، وبسجنه وبظلمه، وبملاحقة أنصاره، إذ إنه لم يمت ميتة ربه، إنما مات شهيداً. والشهيد بالتعريف البسيط هو الذي قضى نحبه وهو يدافع عن آرائه، فمرسي لم يتكلم في أثناء التحقيق، ولا تنصّل من إخوانه، ولا لبّى ضغوط الاستسلام والتبرّؤ من جماعته.
لا يمكنكَ ألا تتعاطف مع محمد مرسي، في هذه الحالة، لأنه ماتَ مظلوماً، مذلولاً، وفي ظروفٍ أدركها العالم، على الرغم من كل محاولات الطمس العسكري. لا يمكنكَ غير أن تسجّل بأن استشهاد مرسي منحه فرصة تاريخية ليتحوّل إلى أيقونة؛ تضاهي أيقونةً سبقته، سيد قطب، نظيره في القدر، الذي قضى إعداما في عهد جمال عبد الناصر، بسبب آرائه الداعية إلى هجرة المجتمع "الجاهلي" وإقامة "حاكمية الله". أيقونة لـ"الإخوان المسلمين"، قوة معنوية لهم، مثلما يكون عادة الشهداء. ولغير الإسلاميين، درسٌ بليغ عمّ يمكن أن يكون عليه خصمك الأيديولوجي من مظلوميةٍ أصيلة؛ هي مظلومية الحريات، فمهما بلغ هذا الخصم من خلافٍ معك، هو معك في خندق واحد. ولا تخلط بين إسلامي وإرهابي، أو تدوّر كلام العسكر عن الإرهاب، لتقول إنهم، أي الإخوان، إرهابيون، ويستحقون الموت. هذا منطق العسكر، وهو ليس جديدا. السيسي الذي يحاول تقليد عبد الناصر أخفق طبعاً، لأن المرحلة والشخصية وكل السياق مختلف. ولكنه نجح في تقليده، بل بتجاوزه، في معركته ضد "الإخوان المسلمين"، فجدّد الأتون المصري، عسكر/ إخوان، العريق. أو دوائره المغلقة، العاصية على الاختراق، على الأقل في المنظور من الأيام.
كادت الخطوة الثانية أن تعرقل مسيرة قدره. فور صعوده إلى الرئاسة، والأرجح بدافعٍ من صراع نصفٍ مستترٍ مع العسكر، أصدر مجموعة قرارات وتعديلات دستورية، جَفَل منها المصريون ونَفَروا، لما تنطوي عليه من جموحٍ سلطوي، ومن أسلمةٍ مغاليةٍ في الدستور، لكنه لم يوفّق بتطبيقها، ولا في إنجاحها أو إفشالها. عام واحد فقط على رئاسته؛ والعسكر ضجّوا من هذا الجموح، ورأوا فيه تهديداً مباشراً لسلطتهم التي لم تضعفها الثورة، فشنّوا حملة تهميش، وصراع ميداني على الأرض، ردّ عليهم "الإخوان" باعتصام شعبي في ساحة رابعة العدوية، انزعج منه العسكر، فقاد هؤلاء هجوماً مسلحاً عليه، وقتلوا مئات من المعتصمين. ثم "ثورة" ثانية، معلّبة، مؤطّرة، ممَسْرحة، أخرجت "الإخوان المسلمين" من الشرعية السياسية إلى المطارَدة القانونية. وأفضت إلى ما يزيد عن الألف قتيل، عن آلاف الموقوفين، ومئات المنْفيين الهاربين من شيْطَنتهم وملاحقتهم أينما ولّوا وجوههم.
شراسة قائد العسكر، عبد الفتاح السيسي، في محو أي أثرٍ "إخواني" في الإطار الشرعي
ضِباع الإعلام الممْسوك من العسكر لم يقصّروا في إهانة موته، بعدما هلّلوا لمظلوميته. تجاهلوه، زوّروا التاريخ، بأنهم لم يتجشّموا عناء الإشارة، ولو المقتضبة، بأنه كان في يوم رئيساً لجمهورية مصر. تناوبوا على عضّه، على شتمه، على تسويد وجهه، بصراخٍ عالٍ لكي يسمع العسكر جدّياً كم هم موالون لهم.
وإذا أردتَ ان تختصر هذه المسيرة، يمكنكَ القول إن محمد مرسي، رئيس جمهورية مصر
لا يمكنكَ ألا تتعاطف مع محمد مرسي، في هذه الحالة، لأنه ماتَ مظلوماً، مذلولاً، وفي ظروفٍ أدركها العالم، على الرغم من كل محاولات الطمس العسكري. لا يمكنكَ غير أن تسجّل بأن استشهاد مرسي منحه فرصة تاريخية ليتحوّل إلى أيقونة؛ تضاهي أيقونةً سبقته، سيد قطب، نظيره في القدر، الذي قضى إعداما في عهد جمال عبد الناصر، بسبب آرائه الداعية إلى هجرة المجتمع "الجاهلي" وإقامة "حاكمية الله". أيقونة لـ"الإخوان المسلمين"، قوة معنوية لهم، مثلما يكون عادة الشهداء. ولغير الإسلاميين، درسٌ بليغ عمّ يمكن أن يكون عليه خصمك الأيديولوجي من مظلوميةٍ أصيلة؛ هي مظلومية الحريات، فمهما بلغ هذا الخصم من خلافٍ معك، هو معك في خندق واحد. ولا تخلط بين إسلامي وإرهابي، أو تدوّر كلام العسكر عن الإرهاب، لتقول إنهم، أي الإخوان، إرهابيون، ويستحقون الموت. هذا منطق العسكر، وهو ليس جديدا. السيسي الذي يحاول تقليد عبد الناصر أخفق طبعاً، لأن المرحلة والشخصية وكل السياق مختلف. ولكنه نجح في تقليده، بل بتجاوزه، في معركته ضد "الإخوان المسلمين"، فجدّد الأتون المصري، عسكر/ إخوان، العريق. أو دوائره المغلقة، العاصية على الاختراق، على الأقل في المنظور من الأيام.