حِرف ومهن كثيرة تتجه إلى الانقراض في لبنان مع تسارع خطوات الحداثة وتقنياتها. المنجّد أبو أيمن معاوية ما زال ناشطاً ولو أنّ زبائنه تضاءلوا
كرسي الخيزران أمام المحل الصغير في محلة بربور في العاصمة اللبنانية بيروت، يبدو ملائماً جداً للعصر الذهبي لمهنة التنجيد. المهنة تلك التي تتعامل مع القطن والصوف والأقمشة المتنوعة والخيطان، وكثير من الجهد والوقت للعاملين فيها تكاد تندثر اليوم.
في الشارع الضيق والهادئ المؤدي إلى الطريق الرئيسي الواصل بين شرق العاصمة وغربها، يتحدث محمد معاوية عن مهنة تآكلت حتى لم تعد "مصلحة". الرجل المربوع القامة، المتين الجسم، على الرغم من بلوغه السبعين، يقصد أنّها لم تعد مهنة لها معلّموها وعمّالها ونشاطها المستمر صيفاً وشتاء.
أبو أيمن فتح محله هذا العام 1967. قبل ذلك، كان يعمل مع أشقائه في المهنة نفسها في عين الرمانة (الضاحية الجنوبية لبيروت) منذ الخمسينات، أي منذ كان طفلاً.
في محلّه كان يستقبل طلبات الجميع ويمضي إلى منازلهم، كبيرها وصغيرها. يتذكر بعض الزبائن من عائلات السياسيين الذين ما زال بعضهم، حتى اليوم، يقصده. لكنّه يؤكد أنّه لا يحابي أحداً على حساب الآخر: "من أعطيه كلمة وموعداً أنجز ما يطلب. فليست مسألة سهلة أن يفتق الناس فرشهم وملاحفهم وغيرها وينتظرون فترة طويلة". احترام الكلمة أساسي لديه وهو ما اتبعه طوال فترة ممارسته المهنة.
أنواع القطن كثيرة، ومصادرها عديدة من مصر وسورية وتركيا وغيرها من البلدان. اليوم، لم تبق معامل كبيرة للقطن في لبنان تستورده وتعالجه. لذلك، بات النوع الملكي، وهو من حلب (شمال سورية) وحيداً في الأسواق، يستخدمه جميع المنجّدين في منتجاتهم. تلك المنتجات لا يصنعها المنجّدون إلاّ إذا طلبت منهم "توصية". فالخسائر كبيرة جداً في المهنة، وربّما لا يبيع أحدهم ما صنعه إذا لم يطلبه أحد منه.
أبو أيمن الذي أنجب ستة أبناء، يجلب القطن معالجاً وجاهزاً من المعمل، فيحشو المخدات والملاحف وفرش النوم، كلّ بحسب ما تتطلبه من كمية قطن. فالفرشة "المجوز" أي المزدوجة التي يمكن أن ينام عليها الزوجان معاً، تتطلب 13 كيلوغراماً من القطن، وتتدنى الكمية كلّما صغر حجم الفرشة. والسعر أيضاً يرتفع ويتدنى بالطريقة نفسها. فتجهيز "فرشة مجوز" كاملة متكاملة مع القطن اللازم والقماش والخيطان تصل تكلفته إلى 525 ألف ليرة لبنانية (350 دولاراً أميركياً). أما تنجيد فرشة مماثلة، وهو ما يفعله سنوياً أو كلّ عامين عادة، من يملكون مثل هذا النوع، فتكلفته 50 ألف ليرة (33 دولاراً)، تتدنى إلى 30 ألف ليرة (20 دولاراً) في فرشة "المفرد والنصف".
اقــرأ أيضاً
يستخدم بعض المنجّدين اليوم القطن المستعمل. وهو ما يجلبونه من فرشات مرمية أو مهملة، ثم يصنعون فرشاً جديدة منه. التنجيد يجري بطريقتهم المعروفة بالندف. وهي ضرب القطن بقضيب معدني طويل، يسمّيه بعضهم المندف. يضرب المنجّد طوال وقت طويل حتى يعود القطن نظيفاً من الشوائب وناعماً كما لو كان جديداً. اليوم، باتت ماكينة الندف الكهربائية هي البديل السريع جداً. يدخل المنجّد القطن مهما كان متغضناً ومليئاً بالرطوبة إليها من جهة، فتخرج كالثلوج المنهمرة من الجهة الثانية، نظيفة وجاهزة. أبو أيمن يستخدم غرفة داخلية صغيرة في محله يضع فيها الماكينة، لكنّه لا يشغّلها قبل أن يضع كمامة على أنفه وفمه، خوفاً من الغبار وما يحمله من احتمالات الحساسية.
لم يعتد أبو أيمن البقاء في المنزل. يحبّ العمل ويجد نفسه يصنع شيئاً ما فيه، عدا عن التسلية. لكنّه لا يخفي سراً إذ يقول إنّه ما كان سيتمكن من العمل لو أنّه أراد أن يفتح للتو محلاً لمهنته. فالإيجارات مرتفعة جداً أما المحل الذي هو فيه اليوم فإيجار قديم، أيّ أنّه زهيد التكلفة، يسمح له بانتظار الزبائن القلائل، المساومين دائماً على الأسعار. كذلك، كان الزبون ينتظر شهراً كاملاً حتى يتمكن أبو أيمن من تسلّم طلبه ومباشرة العمل به. اختلف الوضع كثيراً.
يظهر التدهور أيضاً من خلال عدد العمال لديه: "كان المحلّ يستوعب كلّ من جاء من العمال لأنّ العمل متواصل طوال الوقت. كان لديّ أكثر من 10 عمّال". أما الآن فأبو أيمن يعمل وحيداً في المحلّ ليس معه أحد أبداً. والطلب يتسلمه فوراً إذا وصل ليباشر العمل فيه سريعاً. كذلك، كان كثير من العمال يمرّون ويسألونه إن كان يريد توظيفهم لكنّ ذلك أيضاً اختلف: "هذا العام لم يسألني أحد". ينال راحة يومي السبت والأحد من كلّ أسبوع يسافر فيهما إلى مسقط رأسه بعلبك (شرق). هناك أيضاً لديه محل تنجيد لكنّ زبائنه قلائل جداً.
يؤكد أبو أيمن أنّ فرشة القطن القابلة للتنجيد أفضل من الفرشة الحديثة. لكنّه مع ذلك واقعي: "فرشة القطن تحتاج إلى عناية كبيرة من غسيل وتجديد وترقيع. واليوم، يعمل الرجل وتعمل المرأة، فمن سيتولى هذه المسألة؟".
كرسي الخيزران أمام المحل الصغير في محلة بربور في العاصمة اللبنانية بيروت، يبدو ملائماً جداً للعصر الذهبي لمهنة التنجيد. المهنة تلك التي تتعامل مع القطن والصوف والأقمشة المتنوعة والخيطان، وكثير من الجهد والوقت للعاملين فيها تكاد تندثر اليوم.
في الشارع الضيق والهادئ المؤدي إلى الطريق الرئيسي الواصل بين شرق العاصمة وغربها، يتحدث محمد معاوية عن مهنة تآكلت حتى لم تعد "مصلحة". الرجل المربوع القامة، المتين الجسم، على الرغم من بلوغه السبعين، يقصد أنّها لم تعد مهنة لها معلّموها وعمّالها ونشاطها المستمر صيفاً وشتاء.
أبو أيمن فتح محله هذا العام 1967. قبل ذلك، كان يعمل مع أشقائه في المهنة نفسها في عين الرمانة (الضاحية الجنوبية لبيروت) منذ الخمسينات، أي منذ كان طفلاً.
في محلّه كان يستقبل طلبات الجميع ويمضي إلى منازلهم، كبيرها وصغيرها. يتذكر بعض الزبائن من عائلات السياسيين الذين ما زال بعضهم، حتى اليوم، يقصده. لكنّه يؤكد أنّه لا يحابي أحداً على حساب الآخر: "من أعطيه كلمة وموعداً أنجز ما يطلب. فليست مسألة سهلة أن يفتق الناس فرشهم وملاحفهم وغيرها وينتظرون فترة طويلة". احترام الكلمة أساسي لديه وهو ما اتبعه طوال فترة ممارسته المهنة.
فتح محله عام 1967 (حسين بيضون) |
أنواع القطن كثيرة، ومصادرها عديدة من مصر وسورية وتركيا وغيرها من البلدان. اليوم، لم تبق معامل كبيرة للقطن في لبنان تستورده وتعالجه. لذلك، بات النوع الملكي، وهو من حلب (شمال سورية) وحيداً في الأسواق، يستخدمه جميع المنجّدين في منتجاتهم. تلك المنتجات لا يصنعها المنجّدون إلاّ إذا طلبت منهم "توصية". فالخسائر كبيرة جداً في المهنة، وربّما لا يبيع أحدهم ما صنعه إذا لم يطلبه أحد منه.
أبو أيمن الذي أنجب ستة أبناء، يجلب القطن معالجاً وجاهزاً من المعمل، فيحشو المخدات والملاحف وفرش النوم، كلّ بحسب ما تتطلبه من كمية قطن. فالفرشة "المجوز" أي المزدوجة التي يمكن أن ينام عليها الزوجان معاً، تتطلب 13 كيلوغراماً من القطن، وتتدنى الكمية كلّما صغر حجم الفرشة. والسعر أيضاً يرتفع ويتدنى بالطريقة نفسها. فتجهيز "فرشة مجوز" كاملة متكاملة مع القطن اللازم والقماش والخيطان تصل تكلفته إلى 525 ألف ليرة لبنانية (350 دولاراً أميركياً). أما تنجيد فرشة مماثلة، وهو ما يفعله سنوياً أو كلّ عامين عادة، من يملكون مثل هذا النوع، فتكلفته 50 ألف ليرة (33 دولاراً)، تتدنى إلى 30 ألف ليرة (20 دولاراً) في فرشة "المفرد والنصف".
يستخدم بعض المنجّدين اليوم القطن المستعمل. وهو ما يجلبونه من فرشات مرمية أو مهملة، ثم يصنعون فرشاً جديدة منه. التنجيد يجري بطريقتهم المعروفة بالندف. وهي ضرب القطن بقضيب معدني طويل، يسمّيه بعضهم المندف. يضرب المنجّد طوال وقت طويل حتى يعود القطن نظيفاً من الشوائب وناعماً كما لو كان جديداً. اليوم، باتت ماكينة الندف الكهربائية هي البديل السريع جداً. يدخل المنجّد القطن مهما كان متغضناً ومليئاً بالرطوبة إليها من جهة، فتخرج كالثلوج المنهمرة من الجهة الثانية، نظيفة وجاهزة. أبو أيمن يستخدم غرفة داخلية صغيرة في محله يضع فيها الماكينة، لكنّه لا يشغّلها قبل أن يضع كمامة على أنفه وفمه، خوفاً من الغبار وما يحمله من احتمالات الحساسية.
لم يعتد أبو أيمن البقاء في المنزل. يحبّ العمل ويجد نفسه يصنع شيئاً ما فيه، عدا عن التسلية. لكنّه لا يخفي سراً إذ يقول إنّه ما كان سيتمكن من العمل لو أنّه أراد أن يفتح للتو محلاً لمهنته. فالإيجارات مرتفعة جداً أما المحل الذي هو فيه اليوم فإيجار قديم، أيّ أنّه زهيد التكلفة، يسمح له بانتظار الزبائن القلائل، المساومين دائماً على الأسعار. كذلك، كان الزبون ينتظر شهراً كاملاً حتى يتمكن أبو أيمن من تسلّم طلبه ومباشرة العمل به. اختلف الوضع كثيراً.
يندف القطن (حسين بيضون) |
يظهر التدهور أيضاً من خلال عدد العمال لديه: "كان المحلّ يستوعب كلّ من جاء من العمال لأنّ العمل متواصل طوال الوقت. كان لديّ أكثر من 10 عمّال". أما الآن فأبو أيمن يعمل وحيداً في المحلّ ليس معه أحد أبداً. والطلب يتسلمه فوراً إذا وصل ليباشر العمل فيه سريعاً. كذلك، كان كثير من العمال يمرّون ويسألونه إن كان يريد توظيفهم لكنّ ذلك أيضاً اختلف: "هذا العام لم يسألني أحد". ينال راحة يومي السبت والأحد من كلّ أسبوع يسافر فيهما إلى مسقط رأسه بعلبك (شرق). هناك أيضاً لديه محل تنجيد لكنّ زبائنه قلائل جداً.
يؤكد أبو أيمن أنّ فرشة القطن القابلة للتنجيد أفضل من الفرشة الحديثة. لكنّه مع ذلك واقعي: "فرشة القطن تحتاج إلى عناية كبيرة من غسيل وتجديد وترقيع. واليوم، يعمل الرجل وتعمل المرأة، فمن سيتولى هذه المسألة؟".