بحثاً عن خريطةٍ واضحة لكيفية إدارة المشهد السياسي وصناعة مجلسي النواب والشيوخ والمجالس المحلية الجديدة، كثّف جهاز الأمن الوطني المصري خلال شهر يناير/ كانون الثاني الحالي اجتماعاته مع عددٍ من قيادات الأحزاب الممثلة في البرلمان وبعض النواب. هذه المباحثات شملت أيضاً ممثلين للقوى السياسية غير المعارضة للنظام بصورةٍ مبدئية، لكنها استُبعدَت من المشاركة مع أحزاب الدولة التابعة للاستخبارات في التحالفات التي نجحت في دخول مجلس النواب الحالي.
وقالت مصادر سياسية في حزب "مستقبل وطن" التابع للدولة، الذي أسّسته الاستخبارات العامة وأصبح يُدار حالياً بواسطة الأمن الوطني، إن الاجتماعات التي يعقدها الجهاز مع قيادات بعض الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية التي ليس لديها مواقف سلبية مطلقة من النظام المصري، تهدف إلى بحث سبل تنفيذ التوصية التي سبق أن رفعها الجهاز إلى دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وكانت "العربي الجديد" قد نشرت تقريراً عن استغلال مجلس الشيوخ في هذا الغرض "التجريبي" و"التنفيسي" في آن واحد. وتقوم التوصية على فتح ساحة هذا المجلس لدخول بعض الشخصيات السياسية المعارضة، أو التي كان بينها وبين النظام خصومة مؤقتة في بعض القضايا خلال السنوات الخمس الماضية، ليصبح المجلس "ساحة صورية وتجريبية، لفكرة خلق معارضة مُستأنسة، من داخل عباءة النظام".
وكشفت المصادر أن "هناك أفكاراً متقدمة يجري وضع اللمسات الأخيرة بشأنها حالياً لإعداد قائمة موحدة تضم مرشحي الأحزاب الموالية للسلطة، وعلى رأسها مستقبل وطن، ومرشحو بعض تلك الأحزاب التي تصنف بأنها معارضة"، وهي أحزاب في حقيقتها معارضة جزئياً لبعض سياسات النظام. وتهدف الخطوة إلى افتعال تحقيق انفراجة سياسية بناءً على وعود الأذرع الإعلامية للنظام التي تروج لذلك منذ اندلاع تظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي وفشل النظام في وأدها واضطراره إلى التعامل الأمني الحاد معها، ما أدى إلى اعتقال الآلاف، لا يزال المئات منهم في السجون.
وأضافت المصادر أن هناك خلافات تبرز بين الحين والآخر خلال مناقشة النسب وأوضاع تلك الأحزاب، التي يخشى رؤساؤها الاعتذار عن الحصول على تلك الفرصة، تحسباً لإبعادهم عن المشهد مرة أخرى. ويحاول بعضهم الحصول على حوافز مختلفة للمشاركة في رسم هذه الصورة "الانفتاحية" التي "لن تترك أي تفصيلة منها للصدفة" على حد قول المصادر، "وسيجري تصميمها بشكل مسبق وكامل".
ومن الحوافز التي يطالب بها رؤساء الأحزاب، إتاحة الفرصة أمامهم للمنافسة المفتوحة في مجلس النواب والانتخابات المحلية، وتمرير بعض الأفكار والمشروعات التشريعية الخاصة بهم من خلال "مستقبل وطن"، والسماح لوسائل الإعلام المحلية باستضافتهم لعرض أفكارهم.
وبحسب المصادر نفسها، فإن بعض القيادات الذين استضافهم الأمن الوطني في اجتماعات متوالية الأسبوعين الماضيين، تحدثوا بشأن ضرورة الإفراج عن المعتقلين السياسيين وغلق بعض القضايا المفتوحة لقيادات الأحزاب من أصدقائهم وزملائهم. لكن هذا الأمر ووجه برفضٍ شديد من مسؤولي الأمن الوطني، الذين طلبوا منهم التزام حدود التحرك المسموحة، وعدم خلط الأوراق. في المقابل، أشار مسؤولو الأمن إلى إمكانية التعاون مع "شخصيات محددة" من نواب تحالف تكتل 25-30 الحاليين في البرلمان، الذين كان دخولهم إليه قبل أربع سنوات جزءاً من خطة استخبارية لتطعيمه بشخصيات شابة، ثم انخرط بعضهم في معارضة سياسات النظام.
وسبق أن أشارت مصادر مطلعة أخرى في حزب "مستقبل وطن" إلى أن الاستخبارات تتعامل حالياً باعتبار أن انتخابات مجلسي النواب والشيوخ ستُجرى متزامنة، وليس بالتوالي. ويُبنى هذا التعامل على إشارات حديثة من السيسي بضرورة الاستجابة لتوصية وزارة المالية بإجراء انتخابات متزامنة في صندوقٍ واحد، لتخفيض نصيب الاستحقاقات الانتخابية من الموازنة العامة المقبلة، وتلافي الآثار المالية السلبية لاستفتاء التعديلات الدستورية الأخير، وهو ما كانت "العربي الجديد" قد نشرته منسوباً إلى مصادر حكومية في مايو/ أيار الماضي.
وبناءً على هذا الترجيح، أصدرت الاستخبارات تعليمات عامة منذ شهرين للأمن الوطني وإدارة حزب "مستقبل وطن" بضرورة توسيع قاعدة العضوية لتحديد قوائم واسعة من المرشحين، بحيث يسهل توزيعهم على المجلسين والاستفادة من الصلات والإمكانات التي يتمتع بها كل شخص في دائرته المهنية أو الإقليمية. وبناء عليه، أعيد تشكيل مكاتب الحزب في جميع المحافظات بحلول نهاية العام الماضي. أما الأشخاص الذين سيزيدون على الحاجة في انتخابات المجلسين، فمن المرجح الدفع بهم في انتخابات المحليات التي لم يُعدَّل تنظيمها المنصوص عليه في دستور 2014، وهي مؤجلة منذ ذلك الحين ولم يصدر قانون ينظمها، وارتأى الأمن الوطني إرجاء تمرير القانون عدة أشهر لحين إنهاء رسم الصورة النهائية لخريطة التحالفات وتحديد الأحزاب التي سيُسمح بخوضها الانتخابات.
ومنذ اقتراح إنشائه، من المتداول في الأوساط السياسية المصرية أن السبب الأساسي لتدشين مجلس الشيوخ هو مكافأة ومجاملة أكبر قدر من الأشخاص الذين يقدمون خدمات للنظام، لاستمرار استمالتهم والسيطرة عليهم، في محاولة لإعادة إنتاج تجربة مجلس الشورى في عهد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ويعكس ذلك رغبة النظام في تهميش دور هذا المجلس وإبقائه مجرد "مستودع للمجاملات"، على الرغم من أن ميزانيته لن تقلّ بأي حال عن 600 مليون جنيه (نحو 36 مليون دولار) سنوياً، بحسب مصدر حكومي مطلع، بالنظر للميزانية الحالية لمجلس النواب، وهي مليار و400 مليون جنيه. كذلك لن يقلّ عدد أعضاء هذا المجلس عن 180 بموجب الدستور، بالإضافة إلى نحو 300 موظف كانوا قد انتقلوا من مجلس الشورى إلى مجلس النواب، وفي الغالب سيعودون مرة أخرى لمباشرة أعمالهم السابقة، فضلاً عن إنشاء مبنى مستقل له في العاصمة الإدارية الجديدة.
ولا يدل على تهميش صلاحيات هذا المجلس الجديد أبلغ مما نصت عليه المادة 249 من أن يؤخذ رأيه في "مشاريع القوانين ومشاريع القوانين المكملة للدستور التي تحال عليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، وما يحيله رئيس الجمهورية على المجلس من مواضيع تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها في الشؤون العربية أو الخارجية". وتوضح المادة أن صلاحيات "الشيوخ" ستكون أقل من مجلس الشورى في عهد مبارك، لأن دستور 1971، المعدل في عام 1980، كان يجعل عرض القوانين المكملة للدستور على مجلس الشورى إلزامياً، لكن الدستور الحالي يجعل هذا العرض اختيارياً.