يغيب معظم القادة الميدانيين والسياسيين الفلسطينيين عن السمع خلال المعارك التي تشهدها أزقة مخيم "عين الحلوة" للاجئين الفلسطينيين في مدينة صيدا جنوب لبنان، ويُترك المدنيون في المخيم رهينة الاشتباكات التي تعجز الفصائل عن وقفها بسبب تشتت القرار المركزي عند حركة "فتح". ويُشرف المسؤولون السياسيون الفتحاويون على عشرات الضباط والعناصر الذين يُشكلون قوة "فتح" العسكرية في "عين الحلوة"، ويملك هؤلاء الضباط سلطة فرض الحرب والسلم في المخيم.
ويكفي إغلاق الهاتف الخلوي لاستمرار المعارك التي يخوضها عناصر "فتح" مع بعض المجموعات الإسلامية المُتشددة لأيام، بعكس الإرادة السياسية للفصائل. ومع استشراء حالة تفتت البنية الهرمية لحركة "فتح"، بدءاً من المقر العام في مدينة رام الله، وعمل القيادي المفصول من الحركة، محمد دحلان، على اجتذاب قادة وضباط الحركة إلى صفوفه، يبرز في كل معركة اسم ضابط جديد يستقل بالقرار الميداني للمخيم. بطل المعركة الأخيرة، التي اندلعت إثر محاولة أحد القادة في مجموعة الإسلامي المُتطرف بلال بدر، ويُدعى بلال العرقوب، سرقة سلاح شبان من "فتح" خلال اجتماعهم في قاعة داخل المخيم، هو العميد أبو أشرف العرموشي. وأدت محاولة سرقة السلاح ووجود خلافات شخصية بين العرموشي والعرقوب إلى اندلاع اشتباك مُسلح، أراده العرموشي محاولة جديدة لاقتحام حي الطيري (معقل بدر) وإنهاء حالته التي أرّقت المُخيم وحولته إلى بؤرة أمنية تُهدد الاستقرار داخله وفي مدينة صيدا.
استمر الكر والفر بين المجموعتين لأيام، وتخلله إحراق منزل العرقوب بشكل مُتعمد، قبل أن تقع مجموعة من المسلحين من جماعة العرموشي بين قتيل وجريح في كمين نفذه عناصر العرقوب عند أحد مداخل حي الطيري. ونجح بعدها عناصر العرموشي في رفع رايات "فتح" على بعض المنازل في أول حي الطيري، التي كانت مواقع قنص استخدمتها جماعة العرقوب. ثم ثبتت "عصبة الأنصار" وقفاً لإطلاق النار خُرق سريعاً، ووقفاً ثانياً تم إعلانه بعد اجتماع في منزل المتحدث باسم العصبة، أبو شريف عقل، عُقد مساء الإثنين الماضي بغياب أي ممثل عن "فتح". وبحسب مصادر إسلامية مُتابعة لملف عين الحلوة، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن قيادة "فتح" في رام الله تُشرف مباشرة على سير التطورات الميدانية، وذلك تحت عنوان "تحقيق انتصار عسكري على الإسلاميين المُتطرفين لتأكيد مرجعية الحركة في حماية المُخيم". لكن ذريعة "التنسيق مع القيادة في رام الله" أدت إلى مزيد من تشرذم القرار الفتحاوي، بحسب المصادر نفسها، وذلك نتيجة المنافسة بين ضباط "فتح" ومحاولة حجز مواقع مُتقدمة في التواصل المباشر مع رام الله. ويجري الحديث عن إدارة مجموعة من 9 ضباط تابعين لجهاز الاستخبارات العامة الفلسطينية للاشتباكات، بعد أن وصلوا من رام الله قبل مُدة، تحت عنوان "إقامة دورات عسكرية لكوادر فتح في مخيم الرشيدية في مدينة صور قرب صيدا". وبحسب المعلومات فإن 5 منهم يُديرون العمليات من مقر السفارة الفلسطينية في العاصمة بيروت، بينما ينتشر 4 منهم في عين الحلوة. ويكتفي العقيد محمود عيسى، المعروف بـ"اللينو"، وهو من أبرز الضباط الموالين لمحمد دحلان، بالاستنفار العسكري من دون أن يشارك في المعارك، وذلك بخلاف الجولة السابقة التي كانت عنيفة جداً، وتخللها اجتماع مقاتلي "فتح" و"حماس" و"عصبة الأنصار" و"اللينو" على قتال مجموعة بدر الذي توارى عن الأنظار فتوقفت المعركة.
وتقول المصادر الإسلامية في عين الحلوة إن "حدة الخلافات السياسية بين الفصائل حول كيفية القضاء على الفكر المُتطرف، وحاجة كل طرف لتبني الانتصار على هذا الفكر بشكل مُنفرد، يفرض وجود قوة عسكرية مُستقلة تستطيع إنهاء حالة بلال بدر من دون أي اعتبار للحسابات الداخلية الفلسطينية ولحسابات قادة الفصائل أنفسهم". ومع فشل مُختلف أشكال التنسيق الفصائلي، الذي تمثل في اللجان الأمنية والعسكرية المُشتركة، تنظر بعض الفصائل الفلسطينية إلى الجيش اللبناني كالقوة المؤهلة لدخول المخيم والقيام بهذه المهمة "من دون منح أي فصيل فلسطيني فضلا في القضاء على المُتطرفين"، وهو الأمر المُستبعد، مع لجوء الجيش ومُختلف القوى الأمنية والعسكرية إلى الاكتفاء بتعزيز إجراءات الحماية والمراقبة حول المُخيم، والتي وُصفت بالعنصرية، وشبهها بعض النشطاء بجدار الفصل العنصري في فلسطين المُحتلة. كما يستمر التنسيق الأمني بين الجيش والفصائل لتسليم المطلوبين الخطرين من داخل المخيم، إذ يوقفهم عناصر الفصائل ويتم تسليمهم عند حواجز المخيم. مع العلم أن عدداً من الإسلاميين المطلوبين والمحسوبين على مجموعات مُتشددة مُختلفة، مثل "القاعدة" و"داعش" و"فتح الإسلام"، تواروا عن الأنظار منذ اندلاع جولات الاشتباك الأولى مع مجموعة بلال بدر، كما أحجموا عن مساعدته خلال المعارك. ولا يشكل مخيم عين الحلوة، الذي تنحصر مشاكله الأمنية داخل أزقته، أولوية سياسية أو أمنية للسلطات اللبنانية، بعكس حدود لبنان الشرقية مع سورية التي تحتاج إلى تأمين فوج بري إضافي واحد على الأقل ليتمكن الجيش من الانتشار في جرود بلدات عرسال والفاكهة ورأس بعلبك والقاع، بعد إنهاء وجود تنظيمي "النصرة" و"داعش" فيها.
نزوح وتعطيل للقوة الأمنية المُشتركة
وبرزت الانعكاسات السياسية للاشتباك الأخير سريعاً في المخيم، مع سحب "حماس" و"عصبة الأنصار" لعناصرهما من القوة الأمنية المُشتركة التي قاتل عناصرها من "فتح" بشكل منفرد، بسبب عدم تنسيق عملية الهجوم على حي الطيري مع القيادة السياسية للفصائل، والتي يرأسها القيادي الفتحاوي، فتحي أبو العردات. ولا يبدو مصير القوة المشتركة واضحاً، علماً أنه لم يمضِ على إعادة تشكيلها، بعد جولة اشتباكات سابقة مع مجموعة بلال بدر، سوى شهرين. وفقد المخيم خلال المعركة الأخيرة وجهاً بارزاً من الوجوه التي واكبت النضال الفلسطيني، عسكرياً ومدنياً، من خلال المواقع المُختلفة التي تولاها، وهو أبو علي طلال، واسمه الحقيقي عبد المنعم الحسنات من دير البلح في غزة. وكان الحسنات وصل إلى لبنان نهاية السبعينيات والتحق بصفوف "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ثم انتقل إلى صفوف "فتح"، وكان ضابطاً في القوة الأمنية في عين الحلوة. وشارك الحسنات في لجان التنسيق الشبابية الفلسطينية - اللبنانية طوال أعوام طويلة، وعُرف عنه نشاطه الاجتماعي والفكري لمواجهة الفكر المُتطرف إلى جانب مهامه العسكرية. كما أدت الاشتباكات إلى نزوح عشرات العائلات المقيمة في حي الطيري وفي الأحياء المجاورة لمكاتب العرموشي إلى أحد المساجد القريبة من المُخيم، وتم تحويل السير من الشوارع المحيطة بالمخيم إلى أُخرى أبعد مع تعزيز الانتشار الأمني للجيش على مداخله.