مدخل "حماس" للخريطة العربية والدولية

23 مارس 2019
+ الخط -
عندما بدأت مسيرات العودة كان قد مضى على حصار غزة ما يزيد عن إحدى عشرة سنة، فُرض الحصار عقب فوز حركة حماس بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الثانية في يناير/ كانون الثاني من العام 2006، حينها اشترطت الأطراف الدولية والرباعية أن تستجيب حماس لمجموعة شروط، على رأسها الاعتراف بإسرائيل. تعايشت غزة مع ظروف الحصار وعاشت ثلاث حروب شنتها إسرائيل على البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم دون أن يمنع المجتمع الدولي الحرب أو يحول دون تكرارها. بدت غزة التي تديرها حركة حماس حينها وحيدة تواجه التغول الإسرائيلي والتنكر العربي الذي وصل إلى حد شيطنتها، وأصبحت العلاقة معها جريمة ترقى لحد التخابر مع عدو.

أغلق معبر رفح تماما ولم تفلح المناشدات في فتحه، وقضى من المرضى من قضى نتيجة تأخر السفر للعلاج، وعندما كان المعبر يفتح فهو فتح مع وقف التنفيذ، وفي أفضل الحالات تمر حافلة أو اثنتان وتعود باقي الحافلات أدراجها بعدما يمضي المسافرون يوما كاملا في الانتظار. وكانت المساعدات الدولية تنتظر أياما طوالا كي تمر إلى غزة عبر البوابة الجنوبية الوحيدة: معبر رفح.

بعدما انطلقت مسيرات العودة وبدأت تأخذ حيزا واسعا وانتشارا كبيرا وبلغت ذروتها في 14 مايو/ أيار 2018 حتى وصل عدد الشهداء في يوم واحد إلى 60 شهيدا، حدث لاحقا تحول في الموقف المصري، واتخذ قرار غير مسبوق، وقررت مصر فتح معبر رفح بشكل شبه يومي في الاتجاهين وأعلن عن تسهيلات في حركة المسافرين، وأعيد فتح بوابة صلاح الدين لمرور البضائع والسلع والسولار والغاز لتصبح البوابة رافدا ماليا لتمويل حركة حماس في إدارة القطاع وتحسين ظروفه المعيشية. سيصبح بإمكان سكان غزة أداء العمرة بعد توقفها لأربع سنوات.

لم يكن هذا التحول الوحيد في الموقف المصري من حركة حماس الذي أفرزته وأنتجته مسيرات العودة. ستصبح غزة مزارا للوفد الأمني المصري بمختلف مستوياته ومسمياته. التحول طاول أيضا موقف أمين جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط الذي تفرغ عندما كان وزيرا للخارجية المصرية في العام 2008 للتنكيل بغزة ومن فيها، ويسجل على الرجل تصريحه المشهور في لقائه مع التلفزيون المصري الرسمي في 8 /2 /2008 عندما قال "إن من سيكسر خط الحدود المصرية ستكسر قدمه"، ووصف في التصريح ذاته صواريخ المقاومة بأنها "كاريكاتورية ومضحكة"، وأن "حماس عقب سيطرتها على القطاع قررت الاشتباك مع إسرائيل، لكن هذا الاشتباك يبدو كاريكاتوريا ومضحكا، لأن الاشتباك مع خصم بمعركة يعني أن تلحق به ضررا، لكن لا تشتبك لكي تتلقى أنت الأضرار". وأضاف "إن الصواريخ التي تنطلق من غزة على إسرائيل بدأت تسقط قرب محطة كهرباء ومخازن للوقود داخل إسرائيل تمد قطاع غزة بالوقود والكهرباء".

بعد إحدى عشرة سنة سيصبح أبو الغيط أمينا عاما لجامعة الدول العربية وسيطالب بعد أقل من شهر من بدء مسيرات العودة في مطلع إبريل/ نيسان 2018، من مجلس الأمن "تشكيل لجنة دولية للتحقيق في سفك الاحتلال الإسرائيلي لدماء المتظاهرين الفلسطينيين السلميين" في قطاع غزة، ويدعو في كلمة ألقاها نيابة عنه الأمين العام المساعد للجامعة العربية لشؤون فلسطين والأراضي العربية المحتلة سعيد أبو علي، مجلس الأمن إلى النهوض بمسؤولياته إزاء حماية المدنيين في فلسطين.

ستصبح مسيرات العودة ووسطاء التهدئة مدخل العلاقات والتقرب بين مصر وحركة حماس، وستضع مصر كل ثقلها لمنع التصعيد وتثبيت التهدئة حتى لو اقتضى الأمر إرسال وفد ثقيل ورفيع المستوى من مخابراتها العامة بوزن الوكيل الأول عمرو حنفي ومشاركة الوكيل أيمن بديع ومسؤول الملف الفلسطيني اللواء أحمد عبد الخالق والعميد أحمد فاروق الذي وصل إلى غزة والتقى قيادة حركة حماس في السابع من شهر مارس/ آذار 2019.

هذه التحولات في المواقف من حركة حماس ومن استحضار غزة تعيد طرح سيناريو مفاده "ماذا لو لم تكن هناك مسيرات عودة، هل كان مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعملية السلام في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، سيقدم عرضاً جديداً لحركة حماس من أجل "تحسين حياة سكان غزة"؟ ويقول في تغريدة له على (تويتر): "أقول للقيادة في غزة نبذكم العنف ووقف تهديد جيرانكم سيجعلكم تجدون يداً ممدودة من الولايات المتحدة لمساعدتكم، وتحسين جودة الحياة بغزة"، وأن "وقف العنف وتهديد إسرائيل، سيخلق فرصاً عظيمة لمساعدة غزة".

هل كانت الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي سيدعوان إلى حماية المتظاهرين في مسيرة العودة وتوفير التمويل لعلاج الجرحى، ودعوة إسرائيل إلى عدم استخدام القوة المفرطة والمميتة مع المتظاهرين الفلسطينيين، وإلى ضبط النفس، والحيلولة دون أي تصعيد جديد للعنف، على حد وصفهما، ثم يطالب البرلمان الأوروبي الذي صنفت محاكمه حركة حماس بالإرهابية في وقت سابق، إلى مواجهة الأزمة الإنسانية بجهود دولية من أجل إعادة إعمار وتأهيل قطاع غزة، ورفع الحصار وهم الذين غضوا الطرف عن الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة!

أعادت مسيرات العودة غزة إلى الاهتمام الدولي بعدما غابت وغُيبت عن ومن وسائل الإعلام الدولية التي كانت تهتم بما يحدث في سورية وليبيا وبالتوتر بين الكوريتين أو موسكو وواشنطن أكثر من اهتمامها بحصار مليوني إنسان على مدار أكثر من عشر سنوات متواصلة ذنبهم أنهم اختاروا وانحازوا لحركة حماس في عملية ديمقراطية أشادوا هم بها. وأصبح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل في المواجهات التي تحدث على حدود قطاع غزة.

ويصبح وصول الوفود الدولية من الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي إلى غزة أمرا روتينيا عاديا، وستحرص هذه الوفود لاحقا على عقد اللقاءات مع قيادات حركة حماس. ففي 1 /2 /2019 عقد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية اجتماعا ثلاثيا ضم قادة حركة حماس ومبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف والوفد الأمني المصري في قطاع غزة. وهي المرة الأولى التي يعقد فيها مثل هذا اللقاء بين حماس والأمم المتحدة ومصر. لا يعني الأمر تجاوز السلطة الفلسطينية بقدر ما يعكس حالة دولية من الإقرار والاعتراف بحركة حماس. هكذا وضعت مسيرات العودة حركة حماس على خارطة التفاعلات العربية والدولية دون أية اشتراطات أو اعترافات بإسرائيل.

وعقب اللقاء الثلاثي بثلاثة أسابيع، وتحديدا في 25 فبراير/ شباط 2019، ستتحدث مصادر إسرائيلية عن أن نتنياهو طلب البحث عن مصادر تمويل لتحويل أموال إلى قطاع غزة لدفع رواتب موظفي حركة حماس خشية التصعيد، وسيقال إن نتنياهو طلب فحص طرق لجسر الفجوة وتحويل الأموال، سواء عن طريق السلطة الفلسطينية أو جهات دولية.
وبعد عام واحد وبفعل مسيرات العودة، ستحرص إسرائيل التي شنت ثلاث حروب على غزة من أجل إسقاط حركة حماس، ومن خلال مئير بن شبات، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، على إبلاغ المبعوث الأممي نيكولاي ملادينوف والوفد المصري بأنها لا تريد التصعيد وغير معنية به، وفي خلفية الإبلاغ كانت تل أبيب قد تعرضت لصاروخين انطلقا من غزة بالخطأ!
المساهمون