لا يزال المدنيون في شمال غرب سورية هم من يدفع الفاتورة الأكبر للصراع الدائر بين قوات النظام، المدعومة من روسيا، وقوات المعارضة، المدعومة من تركيا. فمن جهة تتعاطى قوات النظام، وداعمتها موسكو، مع المدنيين كعدو تستهدفه طائراتها، أكثر من أي هدف عسكري. كما تعمل على قتل كل من يتبقى منهم في المناطق التي تدخلها تلك القوات، الأمر الذي يدفع مئات آلاف المدنيين للنزوح شمالاً، والتجمع ضمن بقعة جغرافية ضيقة هرباً من استهدافهم. ومن جهة أخرى، فإن الإجراء الوحيد الذي تقوم به فصائل المعارضة وتركيا تجاه المدنيين هو السماح للمنظمات الإنسانية بتقديم بعض الخيم لهم، في الوقت الذي تغلق فيه تركيا حدودها أمامهم بشكل محكم، على الرغم من أن شعارها الأساسي في التفاوض مع الروس هو حماية المدنيين ضمن منطقة آمنة.
ووصلت أزمة المدنيين إلى حدود كارثية لم تصل إليها من قبل. فالنظام أصبح على بعد بضعة كيلومترات من أكبر تجمّعين للمدنيين، إذ أصبحت مدينة إدلب، التي تضم نحو مليون مدني، في مرمى مدفعيته، كما أصبحت منطقة باب الهوى، التي تضم أكثر من مليون ونصف المليون مدني، معظمهم نازحون ضمن مخيمات، في مرمى قوات النظام أيضاً، الأمر الذي دفع الكثير من سكان تلك المناطق للتفكير بالهرب سراً إلى تركيا. إلا أن هذا الخيار لم يعد مُتاحاً، فالحدود التركية محكمة الإغلاق، و"جبهة النصرة" تتقاضى 50 دولاراً أميركياً عن كل شخص يريد الوصول إلى الحدود تهريباً، إذ تجبي هذه الأموال كإتاوة من الهاربين من الحرب بعد أن تقطع لهم إيصالاً، هذا عدا عن المبالغ التي يتقاضاها المهرب، والتي تتراوح بين 500 و3 آلاف دولار بحسب طريقة التهريب.
كما أن محنة المدنيين الهاربين من الحرب لا تتوقف عند حدود قطعهم الحدود، فقد شددت الحكومة التركية من إجراءاتها الأمنية في كل المدن الحدودية. فقوات الأمن التركية تنشر دوريات مكثفة داخل المدن الحدودية بهدف توقيف الناجين الذين وصلوا إلى تلك المدن، وتقوم بنقلهم إلى مراكز الهجرة وتأخذ بصماتهم وتدفعهم للتوقيع على تعهد بعدم العودة، ومن ثم تقوم بنقلهم إلى الحدود وترميهم على الجانب السوري منها، من دون استثناء لمسن أو طفل. استمرار التضييق على المدنيين في شمال غرب سورية، ومحاصرتهم باحتمالات الموت من كل جانب، وعدم إيجاد حل حقيقي لمشكلتهم بعيداً عن الشعارات والمتاجرة بمعاناتهم، من شأنها أن تؤدي لدفعهم لكسر الحدود مع أول تحسن لحالة الطقس، حتى لو كلف الأمر حياة بعضهم، لأن الهارب من الموت لن يكون لديه ما يخسره حين يجبر على العودة إليه.