بعدما أصدرت مصر قانوناً يُجرّم اعتلاء المنابر من دون تصريح من المؤسسات الدينية الرسمية، صدرت أخيراً دراسة عن "المبادرة المصرية للحقوق والحريات الشخصية" حملت عنوان "لمن المنابر اليوم"، وقد أعدّها الباحث، عمر عزت، لتسلط الضوء على أن "الإدارة السياسية التي حكمت البلاد بعد عزل الرئيس محمد مرسي، شددت قبضتها السلطوية على الخطاب الديني". ولفتت إلى أنه "منذ قرون طويلة، حافظت مصر على سياسات تستند إلى نموذج الخلافة بشأن إدارة المساجد".
وتابعت الدراسة أن "الحكومات المصرية المتتابعة استعانت بأدوات سلطوية مختلفة في العصر الحديث للتصدي لأي جهة تتحدى تعاليم المؤسسات الدينية الرسمية، رغم ادعاء السلطة الدائم أن هذه السياسات تهدف إلى إبعاد المساجد عن السياسة".
تبحثُ الدراسة في تحوّلات السياسة الرسمية حيال إدارة المساجد على مدار عهود مختلفة، بدءاً من ظهور الدولة المركزية الحديثة، مروراً بالتحولات السريعة التي تلاحقت بعد ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011، وصولاً إلى عهد حكومة الإخوان المسلمين (2012 - 2013). وتتطرق إلى السياسات المركزية التي تتبعها السلطة الحالية، ممثلة في وزارة الأوقاف، للسيطرة على الخطب والدروس الدينية في المساجد منذ عزل مرسي (2013 - 2014).
وقالت الدراسة إنه "على مدار السنوات المضطربة الأخيرة، ما بعد ثورة يناير/كانون الثاني، لم يتوقف استخدام المساجد كأداة لتأسيس الشرعية السياسية. ولعبت الدولة دور الزعيم الديني أو الإمام الذي يقود الأمة، وسعت لمراقبة أي رأي ديني يهدد الوحدة السياسية ــ الدينية. غير أنها بأسلوبها هذا، إنما تخدم أهداف الإسلام السياسي عينه الذي تسعى لاستبعاده، وتُرَسِّخ الدين كمصدر أول للشرعية السياسية". ولفتت الدراسة إلى أن "سياسات السلطة الحالية في إدارة المساجد لا تتفق مع مفاهيم المواطنة والحريات الدينية. فقد خلقت ساحة للصراع على تملك واستغلال الوحدة الدينية للمسلمين. وأدت إلى أزمة مستمرة نظراً إلى حقيقة التعدد والتنوع على أرض الواقع، مما يستلزم المراقبة المستمرة للنشاط الديني أو محاولة ضمان الامتثال من خلال إشراف الجهات الأمنية أو شبكة من التحالفات السياسية والدينية، لتقليص واحتواء هذا الواقع أو تنظيم الإتاحة المشروطة".
في السياق، قال الباحث إن "هذه السياسات أدوات سلطوية ترسخ سلطة النظام القائم، وتضع أجهزة الدولة في خدمة الحفاظ على سلطة القوة السياسية الحاكمة، وتخدم الاتجاهات الدينية التي تؤيدها أو تتفاوض معها. في المقابل، تضعف مجال التحرك الاجتماعي وتضع جميع الاتجاهات الدينية غير المرغوب فيها خارج نطاق القانون".
وكانت الحكومة المصرية السابقة قد دشنت خطاً ساخناً كي يُبَلِّغ المواطنون عن أي مخالفة لـ "تعاليم" الدولة، أو استخدام المنابر لأغراض سياسية. كذلك أصدر الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور قانوناً يجرّم اعتلاء المنابر من دون تصريح من المؤسسات الدينية الرسمية، ويعاقب عليه بالسجن لمدد تتراوح بين 3 أشهر وعام، إضافة إلى غرامة مالية كبيرة.
وأشارت الدراسة إلى أن الدولة "تحركت للسيطرة على جميع المساجد المركزية، ما أغضب بعض روادها الذين اعترضوا على الاستبعاد التعسفي لأئمتهم المفضلين. وفي إحدى الحالات، حمل مصلّون الإمام المعين من قبل وزارة الأوقاف لإبعاده عن المنبر، مما استدعى تدخل الشرطة لتفريق الحشد الغاضب". وبعد 30 يونيو/حزيران من العام الماضي، أشارت الدراسة إلى أنه "كان هناك استخدام مكثف للأدوات السلطوية في الصراع السياسي على المساجد. فوزارة الأوقاف التي تولاها محمد مختار جمعة خلال حكومتي حازم الببلاوي، ثم إبراهيم محلب، استخدمت جميع الأدوات السلطوية التي تضمنها الإطار القانوني لعمل وزارة الأوقاف، إضافة إلى العودة إلى السياسات التي اتبعتها الوزارة قبل يناير/كانون الثاني 2011، وبشكل أكثر كثافة وحدة رغم عدم عودة الإشراف الأمني بكامل فاعليته للتدخل في تفاصيل إدارة المساجد، لكن تحت مظلة حملة أمنية شاملة". أضافت: "استمرت هذه السياسات بعد فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة".
وشددت الدراسة على أن حدود القبول بدور مؤسسة دينية رسمية مدعومة من الدولة هي "فك الارتباط المؤسسي بينها وبين الحكومة، وابتعاد الدولة عن تبني خطاب يقوم على وجود شرعية دينية للسلطة كأنها امتداد لدولة المسلمين التاريخية، في مقابل دعم شرعية مؤسسات الدولة باعتبارها ضامنة وحامية الحقوق والحريات من دون تمييز. يضاف إلى ذلك ضمان الدولة عدم التمييز ضد باقي الأديان والمذاهب والميول الدينية المختلفة مع هذه المؤسسة الدينية، أو تقييد حريتها في اتخاذ دور العبادة وممارسة الشعائر وتعليم الدين أو المذهب وممارسة النشاط الدعوي وفقه، على أن تتمتع المؤسسة بتنظيم ذاتي منفصل عن سلطات الدولة الثلاث، بحيث يحد ذلك من توظيف إجراءات تنظيم المؤسسة واختيار قياداتها لخدمة القوى السياسية التي تتولى الإدارة".