وزادت قرارات التضييق على الناشطين واعتقالهم ومنع دخول المتظاهرين إلى العاصمة الجزائر، والخطاب الحاد لقائد الجيش أحمد قايد صالح ضد قوى المعارضة وتدخّله في كل التفاصيل السياسية والحياتية في الفترة الأخيرة، من غضب الحراك الشعبي، وإصراره على رفض الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل. وارتفعت وتيرة الغضب خصوصاً بعدما ثبتت صلة الجيش والسلطة في كل المسار المؤدي إلى هذه الانتخابات، بدءاً من الطريقة المريبة في تشكيل هيئة الحوار الوطني، وتعثر هذا الحوار، وصولاً إلى صياغة قانون استحداث السلطة الوطنية الجديدة للانتخابات والآلية الغامضة التي تمت بها عملية تشكيل وتعيين أعضاء هذه السلطة.
وكشفت تظاهرات الحراك الشعبي، أمس، في الجمعة الـ31 لها، في العاصمة وعدد من المدن الجزائرية، كبجاية وتيزي وزو، شرقي البلاد، ووهران، غربي البلاد، للمطالبة برحيل رموز عهد بوتفليقة، عن رفض الطريقة التي فرضت بها السلطات الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر/ كانون الأول. وإضافة إلى استمرار المتظاهرين في تجديد المطالب المركزية للحراك، ورفع شعارات "دولة مدنية وليس عسكرية"، فإن موقف الحراك بدا أكثر تصميماً على رفض إجراء انتخابات رئاسية في ظروف غير موضوعية لا تساعد على إنجاز انتخابات نزيهة، على الرغم مما تعتبره السلطة توفيرها كامل الضمانات. وردد المتظاهرون شعارات عبّرت عن هذا العنوان مثل "لا انتخابات مع حكومة العصابات"، معلنين تمكسهم برفض الانتخابات، ومطالبين قبلها بتوفر شروط عدة، أبرزها رحيل حكومة نور الدين بدوي ورئيس الدولة عبد القادر بن صالح. وردد المتظاهرون هتافات "ماكانش الفوت (لا توجد انتخابات) والله ما نديرو (لن نصوت)، بدوي وبن صالح لازم يطيرو، والله ما رانا حابسين (لن نتوقف عن التظاهر)".
واعتبر الناشط في الحراك الشعبي، سفيان هداج، أن فرض الانتخابات بهذه الطريقة على الجزائريين، محاولة من قبل السلطة لترميم النظام من الداخل ومنع الجزائريين من إنجاز تغيير جدي وجذري وإطلاق مسار ديمقراطي حقيقي، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه من "غير الأخلاقي أصلاً تنظيم انتخابات في ظلّ حملة الاعتقالات التي جرت أخيراً، والتي استهدفت عدداً من الناشطين البارزين في الحراك الشعبي، بينهم كريم طابو وسمير بلعربي وفضيل بومالة وغيرهم".
وبقدر تباعد موقف الحراك عن خطوات السلطة، أظهرت مسيرات الجمعة مواقف مناوئة لما يعتبره المتظاهرون والناشطون قرارات تضييق غير مقبولة، ومساساً بالحريات الأساسية للجزائريين، على خلفية قرار قائد الجيش الذي أعلن عنه الأربعاء الماضي، والمتعلق بمنع دخول الحافلات يوم الجمعة إلى العاصمة، وحجزها وتغريم أصحابها، بزعم أنها تنقل متظاهرين في رحلات منظمة إلى العاصمة لزيادة أعداد المتظاهرين في الحراك. وقال الناشط محمد زمالي في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الحملة كانت تستهدف تخويف الجزائريين وترهيب الناشطين المصرين على الحراك الشعبي، موضحاً أن "هذا الأسلوب البوليسي قديم وعتيق وغير مجد. الجزائريون طلقوا الخوف منذ فبراير/ شباط الماضي، ولن تستطيع السلطة إعادة زرعه مجدداً فيهم".
واستبقت السلطات الجزائرية مسيرات أمس الجمعة، بنشرها أعداداً كبيرة من قوات الأمن في الشوارع والساحات الرئيسية، كما نفذت إغلاقاً شبه كامل على العاصمة، وشددت مراقبة حركة السيارات والحافلات التي تدخل إلى العاصمة، وأحكمت مراقبة المداخل، خصوصاً الآتية من جهة المدخل الشرقي ومن ولايات منطقة القبائل. وتكدست السيارات على الطريق السريع قرب منطقة الرغاية في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، بسبب تمركز حاجز للدرك الوطني يقوم بالتدقيق في هويات راكبيها، ودواعي توجههم إلى العاصمة وتفتيشها بحثاً عن أي شعارات أو لافتات موجهة إلى التظاهرات.
ويضع تجمّد موقف الحراك الشعبي عند رفض الانتخابات بالطريقة التي تريدها السلطة والجيش، الأخيرة ضمن نطاق أزمة أكثر منها حلاً لأزمة سياسية تشهدها الجزائر منذ بدء تظاهرات الحراك في 22 فبراير/ شباط الماضي، ثم استقالة بوتفليقة في الثاني من إبريل/ نيسان الماضي. وعبّرت شخصيات سياسية عديدة عن استغرابها للتناقض الواضح بين مسعى السلطة لتنظيم انتخابات رئاسية، يفترض أن توفر لها أجواء من التهدئة وظروفاً تساعد على إتاحة حق كل الآراء السياسية في التعبير عن نفسها، وبين خطابٍ حاد ومتشدد ينتهجه قائد الجيش وحملة اعتقال الناشطين. وبرأي منسق مؤتمر المعارضة الذي انعقد في السادس من يوليو/ تموز الماضي، عبد العزيز رحابي، فإنه "لا يعقل أن تنادي السلطة لانتخابات رئاسية وتنتظر مشاركة واسعة للمواطنين فيها، في حين تضيّق على الآليات السياسية التي من شأنها خلق رغبة لدى الناخبين للتصويت". واعتبر رحابي في تقدير موقف نشره، أن "هناك داخل السلطة، وعلى كل مستوياتها، مقاومة للتغيير الحقيقي، ولهذا السبب أعتقد أن بقايا النظام البوتفليقي لا تزال نافذة داخل مؤسسات الحكم، على الرغم مما تحقق في مجال محاربة الفساد"، مشيراً إلى أن "التمسك بحكومة الأخوين بوتفليقة (التي يطالب الحراك باستبعادها)، يعد بمثابة استفزاز لحق الجزائريين الذين طالبوا، ولا يزالون، برحيلها، واستخفاف بالمعارضة التي تنازلت عن مطلب رئيس الدولة (من أجل تفادي تعميق الفراغ الدستوري القائم)، من دون أن تحصل على استجابة لمطلبها المتعلق برحيل الحكومة".
في مقابل خطّ الحراك، يصّر الجيش الذي يمسك بزمام القرار، على تنفيذ المسار الانتخابي مهما كانت الظروف، وعدم السماح بأي إخفاق في تنظيم ثالث محاولة في هذا الاتجاه، بعد فشل وإلغاء تنظيم انتخابات 18 إبريل/ نيسان، والرابع من يوليو/ تموز الماضيين. وكان قايد صالح قد لمّح في آخر خطاب له، الخميس الماضي، إلى تهديدات ضد كل من يعرقل المسار الانتخابي. ويعتقد الجيش أن نجاحه في اختراق كتلة المعارضة واستقطاب جزء منها لصالح المسار الانتخابي وانخراطه فيها، بينها رئيس حزب "طلائع الحريات" رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، وحركة "البناء" (منشقة عن حزب إخوان الجزائر)، وأحزاب "فجر جديد" و"الاتحاد الديمقراطي" و"الحرية والعدالة"، والتي كانت منضوية في كتلة التغيير المعارضة، سيتيح له إمكانية إنجاز "انتخابات بمن حضر"، على الرغم من مخاوف جدية من تطور الموقف على الأرض إلى حالة صدام أو منع شعبي للتظاهر والحملات الانتخابية، خصوصاً في بعض الولايات المعروفة بنشاطها السياسي.
وتعتقد أطراف سياسية فاعلة في المشهد الجزائري أن المناخ الحالي لم يكن مأمولاً للذهاب إلى انتخابات رئاسية، وأن وضع الحراك في مواجهة مسار إجباري (الانتخابات) لا يتيح في كل الظروف المجيء برئيس جمهورية يحظى بالشرعية الكاملة، بينما كان يفترض التوصل إلى توافقات أساسية بين السلطة والقوى الوطنية عبر حوارٍ جدي، بما يساعد على تحرير المناخ السياسي وتهدئته وتحويل الانتخابات إلى عرسٍ ديمقراطي حقيقي. وقال رئيس حركة "مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري، في ندوة سياسية عقدها الخميس، إن الرئيس المقبل سيجد نفسه مجدداً أمام وضع أزمة تفرض عليه البحث عن توافقات جديدة لتجاوز المرحلة الصعبة سياسياً واقتصادياً.
وباتت الأوضاع اليوم في نقطة يتصادم فيها مشروع الانتخابات مع مطالب الحراك، بعد دفع من السلطة والجيش، على الرغم من مساعي المعارضة السياسية التي قدمت تصورات موضوعية للحل السياسي والدستوري، يأخذ بالاعتبار المخاوف المشروعة للجيش، لكن الأخير اختار الانفراد برسم المسار، من دون الأخذ بالاعتبار تطورات المرحلة وعامل الحراك الشعبي الذي بدأ يستعيد زخمه منذ الجمعة الـ29.