بعد خفوت صوت السلاح في الشرق الليبي، وتراجع الحديث في طرابلس عن وضع "الهلال النفطي" الذي أصبحت مواقعه وأمواله تحت سيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تحول الصراع إلى جنوب ليبيا، المنطقة الرخوة في خاصرة البلاد، والتي تعاني انفلاتاً أمنياً كبيراً وغياباً لسلطتي البلاد منذ سنوات.
ويبدو الصراع هذه المرة خارجياً بشكل أكثر وضوحاً من قبل، وبمشاركةٍ محلية، فمنذ أن سرّبت وسائل إعلام إيطالية أنباء عن نية روما بالتواجد العسكري هناك، تتضارب الأنباء عن تفاصيل هذه الخطوة.
وخرجت أولى المواقف المعلنة السبت الماضي، حين حذر حفتر في بيانٍ له روما من مغبة سعيها لبناء قاعدة عسكرية في الجنوب، متوعداً باستعداده لصد هذه الرغبة عسكرياً، ليصدر في اليوم التالي نفي رسمي من قبل السفير الإيطالي في طرابلس، جوزيبيه بيرونيه، واصفاً الأنباء بــ"الزائفة"، لكن حديث السفير تلته تغريدة على حسابه على "تويتر" يوم أمس قال فيها إن إيطاليا لا تنوي التواجد عسكرياً في الجنوب، غير أنها ستساعد في ضبط الحدود الجنوبية.
وبدت الرغبة الإيطالية بالتواجد في الجنوب الليبي أكثر وضوحاً، أمس، حين صرحت وزيرة الدفاع الإيطالية، إليزابيتا ترينتا، بأن "القيادة لنا في ليبيا يا فرنسا"، وذلك على هامش الاجتماع الوزاري الذي عقد في مقر حلف "الناتو" في بروكسل، قبيل زيارتها المرتقبة لطرابلس الأسبوع المقبل.
وتسلط تصريحات ترينتا الضوء أكثر فأكثر على الصراع الفرنسي - الإيطالي في ليبيا، ويبدو أيضاً أن تحركات فرنسا السياسية وزيارات مسؤوليها المتوالية إلى مصراتة تصب في خانة هذا الصراع، مقابل زيارة رسمية لنائب الحكومة الإيطالية ووزير الداخلية، ماتيو سالفيتي، الأسبوع الماضي، إلى ليبيا، التقى خلالها مسؤولي حكومة الوفاق، ليقدم مشروعاً لم تتضح تفاصيله حتى الآن، بشأن إنشاء مراكز إيواء للمهاجرين غير الشرعيين في البلاد.
وعلى الرغم من عدم صدور أي موقف رسمي من حكومة الوفاق ينفي صحة سعي إيطاليا للتواجد عسكرياً في الجنوب الليبي، أو يرحب به، إلا أن إعلان وزارة داخلية حكومة الوفاق مساء أمس عن تكامل خطة لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية بتعاون كامل مع إيطاليا، قد يشي بصحة ما تحمله التصريحات المعنية بالرغبة الإيطالية في التواجد جنوباً.
في هذا الإطار، قالت مصادر مطلعة من مدينة غات، في أقصى جنوب غرب البلاد، إن المدينة تشهد خلافات حادة بين قادتها، بعد استقبال طيف من قبيلة الطوارق مسؤولا أمنيا إيطاليا كبيرا لمناقشة سبل دعم وجود إيطالي عسكري في المدينة.
وقال المصدر إن الخلافات لا تزال مستعرة حتى الآن، ما يهدد بشق صفّ القبيلة، المعروف بتماسكه وقراراته الموحدة.
وكان "المجلس الاجتماعي لقبائل الطوارق" في غات وخارجها قد أصدر بياناً، مساء أمس الأحد، رحب فيه بـ"التعاون الأمني مع الحكومة الإيطالية في الجنوب الليبي"، بعد ساعات من بيان آخر حمل توقيع "المجلس الاجتماعي لمكونات وقبائل غات"، أكد على رفضه للتواجد الايطالي بالمدينة.
وبحسب تصريحات المصدر الأمني، فإن المجلس البلدي لغات، المؤيد هو الآخر للتعاون الإيطالي، يستعد لاستقبال المدينة ممثلين عن وزيرة الدفاع الإيطالية ترينتا الأسبوع المقبل، لبحث التفاصيل النهائية لإنشاء القاعدة العسكرية.
وقال المصدر إنه "كما هو الحال في مصراتة، حيث هناك توجد عسكري إيطالي تحت مظلة حماية مستشفى ميداني إيطالي أرسلته روما مطلع عام 2016 لتقديم خدمات طبية لقوات البنيان المرصوص، لكنه لا يزال موجوداً حتى الآن، سيكون التواجد الإيطالي العسكري في غات تحت مظلة تقديم الدعم لحرس الحدود الليبي والخدمات الإنسانية للمهاجرين غير الشرعيين".
وأكد المصدر أن الأمر لا يتعدى مواجهة إيطالية - فرنسية، فقاعدة غات تقابل قاعدة "الماداما" الفرنسية القريبة من الحدود الليبية النيجيرية، وقد اتخذ القرار، ولن تعود إيطاليا عنه.
وحول تهديدات حفتر الأخيرة، قال المصدر إن "سلاح حفتر وطيرانه لن يستطيعا الوصول إلى غات القريبة من الجزائر، والتي تتلقى قبائل الطوارق فيها دعماً سياسياً جزائرياً"، مضيفاً أن "الجزائر وقادة في حكومة الوفاق اتفقوا مع إيطاليا لإنشاء هذا الوجود العسكري"، ومؤكداً أن الطيف القبلي في الجنوب الليبي "انقسم بين مؤيد للمساعي الايطالية وآخر موالٍ لحفتر".
وعن أسباب توجه إيطاليا للجنوب الليبي بهذه السرعة، اعتبر الخبير الأمني الليبي محيي الدين زكري أن القرار "له علاقة بقرار حفتر القاضي بنقل تبعية الحقول وموانئ النفط لمؤسسته في بنغازي".
ورأى زكري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "إيطاليا الآن يمكنها دعم مناوئي حفتر في الجنوب، وأبرزها قبائل الطوارق وأولاد سليمان، والتبو، الذين انقلب عليهم حفتر، وهي كبرى قبائل الجنوب، ما يعني أن قرارات حفتر ستبقى وقتها حبراً على ورق"، مؤكداً أن الأخير أدرك ذلك مبكراً، فسارع إلى تحذير إيطاليا.
كما أوضح الخبير الأمني أن الجنوب الليبي "هو مركز تواجد النفط"، مبيناً أن توقيت توجه إيطاليا إلى الجنوب الليبي حساس للغاية".
وختم بالقول إن "روما الآن أدركت جلياً أن خلافاً نشب بين حفتر وفرنسا، حليفته السابقة، ولذا توجهت للحصول على موضع قدم في الجنوب، وكلمة إيطاليا أمس كانت موجهة لفرنسا ولم تعر حفتر أي اهتمام".