مستشفيات سورية... "لعبة الموت" في زمن كورونا

26 اغسطس 2020
توعية للوقاية في القامشلي لكن لا وقاية (دليل سليمان/ فرانس برس)
+ الخط -

الكوادر الطبية، من أطباء وممرضين ومسعفين، في سورية، يصارعون كورونا وما فيه من خطورة غالباً ما تصل إلى حدّ الموت. القصص كثيرة عن مستشفيات عاجزة عن استقبال المرضى، وعتاد غير مؤهل لإنقاذهم

يصل الطبيب طارق العبد باكراً إلى المستشفى الذي يعمل فيه، في العاصمة السورية دمشق. يلتقي بزملائه ويتبادل معهم التحيات وأطراف الحديث عن آخر الأخبار الخاصة بانتشار فيروس كورونا الجديد، والوضع في المستشفى ما بين الوفيات وأعداد النزلاء الجدد. وما أن يضعوا كماماتهم ونظاراتهم الواقية، حتى ينطلق كلّ منهم إلى قسمه ليبدأ لعبة مع الموت لمدة 24 ساعة جديدة، هي ساعات مناوبته في المستشفى.
كلّ قسم في المستشفى، بالإضافة إلى العناية المشددة والإسعاف، يتواجد فيه طبيب مشرف يكاد ينهي سنوات اختصاصه. أطباء الاختصاصات المتقدمة من هضمية وقلبية وأورام وغيرهم، متفرغون صباحاً للعمل في أقسامهم، لكن ابتداء من الساعة الثانية بعد الظهر يتوجهون للالتحاق بأقسام أخرى كمشرفين عليها حتى صباح اليوم التالي، بحسب ما يقول العبد لـ"العربي الجديد".

المشهد الإنساني قاسٍ جداً في المستشفى، فالموت يحيط بالكادر الطبي، وهناك مرضى يصارعون الموت، في ظلّ ضعف القدرة على إنقاذهم ما يزيد من الضغط النفسي. يقول العبد: "في كلّ قسم نمرّ بحالات ضغط كبير، فعندما يصل إلى قسم الإسعاف مصاب يصارع الفيروس لالتقاط أنفاسه محاولاً التشبث بالحياة، يكون المستشفى غاصاً بالمصابين، وفرصة المريض الوحيدة أن يموت أحد المرضى لينزل عن سريره، وهناك من لا تمنحه الحياة فرصة الانتظار حتى، وكلّ ذلك وسط دموع من يفارقون أحبتهم من دون أن يتمكنوا من عناقهم، أو من يبحثون عن أمل بأن ينقذوا أحبتهم، فحيناً يتوسلون الكادر الطبي الذي لا يملك سوى محاولة التخفيف من هلعهم، وأحياناً يطلبون الرحمة والفرج من الله". ويعرب عن اعتقاده بأنّ "أصعب ما في قسم الإسعاف، أو الطوارئ، أنّ فيه دائماً مرضى، بالرغم من أنّ أغلب المستشفيات قسمت الإسعاف إلى جزء مخصص للمصابين بفيروس كورونا الجديد، وقسم للمرضى الآخرين، وهناك لهذه المهمة فريق يفرز المرضى من بوابة الإسعاف ويوجههم إلى المكان الذي عليهم الذهاب إليه".

سياسة/كورونا سورية/(محمد الرفاعي/Getty)

ولا تقلّ المعاناة في الأقسام داخل المستشفى عن قسم الإسعاف، بحسب العبد، الذي يقول: "من الصعوبات التي نعيشها داخل الأقسام، أن يكون مريض في الأساس بوضع متدهور، وفي حاجة إلى اهتمام مستمر أو نقل إلى العناية المشددة. وهناك أيضاً ازدحام وضغط عمل كبير مع تزايد الحالات المحتاجة إلى العناية". يلفت إلى أنّ "هناك مآسي، بعيداً عن مصابي كورونا، فبعدما جرى تجيير المستشفيات لكورونا، بات من الصعب على من يتعرض لحادث سير أو جلطة قلبية أو أيّ مشكلة أخرى، أن يجد مكاناً له في المستشفى إلاّ بصعوبة، وفي مستشفيات مخصصة". ويرى الطبيب الدمشقي أنّ "المشكلة حالياً ليست في الاحتياجات بقدر ما هي في استمرار تأمين سبل الوقاية، خلال الفترة الأخيرة جرى تأمين تلك الوسائل من منظمات أو شركات، لكنّ السؤال الذي يشغلنا هو: هل الجهات المعنية قادرة على تأمين هذه المواد لفترة طويلة؟". ويتابع: "سبل الوقاية اليوم، كملابس واقية وكمامات وأقنعة، توفرت أخيراً لغالبية المستشفيات، بالرغم من التأخير، لكن تمكنت الجمعيات والمنصات الطبية من الضغط بشكل كبير في هذا الموضوع، فتمّ تجهيز الكادر بشكل عام، كما أنّ عملية التعقيم تجري على مدار الساعة".
يخوض الكادر الطبي عملاً متعباً لساعات طويلة يقضيها في هذه الظروف القاسية، فبحسب العبد "هناك في المجمل قرار في أغلب المستشفيات أن يكون الدوام بنظام المجموعات، كلّ منها تعمل لمدة 12 ساعة في اليوم، بهدف تقليل الإصابات، لكن، مع ذلك هناك مزيد من الإصابات المسجلة، كما بات هناك نقص في الأطباء، فتقرر أن يكون العمل لـ24 ساعة، ثم استراحة".

وما زال الكادر الطبي في المستشفيات يواجه حالات من الإساءة مع أنّها أقلّ بنسبة كبيرة منذ أسابيع، بحسب جهاد، وهو طبيب في دمشق طلب عدم كشف هويته لأسباب شخصية، معتبراً أنّ المشكلة كانت في بعض المنصات التي لم تكن على قدر من المسؤولية المطلوبة، بل حرضت ضدّ الأطباء، لكنّ تصدي كثير من المنصات الطبية للردّ والتوضيح لعب دوراً إيجابياً في تصحيح موقف الناس من مجمل الأطباء". يعتبر أنّ "الواقع الحالي ترك أثراً نفسياً كبيراً على الكادر الطبي، إذ كانت هناك لحظات من الصعب جداً أن تنسى، فهناك جزء من الكادر فقدوا آباءهم في المستشفيات، ومنهم من مات أهلهم في المكان نفسه الذي يعملون فيه، وقد يكون من أصعب المواقف التي عشناها، أنّ طبيباً كان عليه أن يأخذ قراراً بإنهاء الإنعاش، أي إعلان الوفاة، وهذا المتوفي هو فرد من عائلته". ويلفت إلى أنّ "هناك أكثر من 60 طبيباً خسرتهم سورية بسبب كورونا، منهم من كان خارج البلاد". ويعرب عن اعتقاده أنّ "الجائحة لم تنتهِ بعد، فصحيح أنّ الناس يضعون كمامات أكثر من ذي قبل، لكنّ كثيرين سافروا في العيد وخالطوا وأقاموا الولائم والأعراس، واليوم بدأنا نلاحظ أنّ إصابات حلب واللاذقية في تصاعد واضح، وبعد أيام من عودة افتتاح المدارس والامتحانات الجامعية ستزداد الإصابات أكثر بكثير".

سورية(Getty)

لا تختلف الأوضاع في مختلف مناطق سورية بغض النظر عن الجهة المسيطرة، ففي شرق الفرات، يقول الدكتور رضوان محمد، لـ"العربي الجديد" إنّ "الكادر الطبي في خطر من جراء ضعف وسائل الوقاية وعدم فعاليتها وكثرة المرضى والمرافقين المهملين لإجراءات الوقاية، بالإضافة إلى عدم توفر أماكن عزل نظامية، في ظل ضعف النظام الصحي المتضرر والمرهق أساساً منذ سنوات الحرب والخراب، كان الله في عون الأطباء والمرضى".
يضيف: "تعجز غالبية المستشفيات والعيادات الخاصة في القامشلي، شمالي شرق سورية، عن استقبال مرضى تظهر عليهم أعراض الإصابة بفيروس كورونا، بسبب افتقارها إلى الأجهزة الطبية وأجهزة التنفس الاصطناعية اللازمة للعناية بالإصابات أو المشتبه بإصابتها، وسط نقص دعم المنظمات والمؤسسات الصحية الدولية للقطاع الصحي في شمال وشرق سورية".
وفي مدينة الرقة، يقول الدكتور فراس الفهد، لـ"العربي الجديد": "للأسف، لا يملك الكادر الطبي من وسائل الوقاية إلاّ البسيط منها كالكمامات، لهذا نجد أنّ هناك مخاوف من أن تكون العدوى والإصابات في تزايد". يتابع أنّ "الإصابات في الرقة بين الأطباء ما زالت قليلة، فقد سجلت إصابة طبيب واحد وهو رئيس قسم الحجر الصحي في الرقة". ويلفت إلى أنّ "الكادر الطبي يتعرض لضغوط نفسية شديدة من جراء الصراع ما بين واجبهم الإنساني وخوفهم من الإصابة بمرض قد يفقدهم حياتهم، في حين أنّ عموم الناس غير ملتزمين بأيّ من إجراءات الوقاية، بل تجدهم يسيئون إلى غيرهم خصوصاً الأطباء، الذين يعانون أكثر من غيرهم في مواجهة هذا المرض".
كثيرة هي القصص التي يبدو أنّها تركت أثرها العميق في العاملين بالقطاع الصحي، ومنهم متطوعو منظمة الهلال الأحمر السوري، الذين غالباً ما يقع على كاهلهم نقل المصابين والموتى، كحال الشاب الجامعي حمزة الزهنان، المقيم بريف دمشق، والذي كتب على صفحته في "فيسبوك": "في الثانية والنصف بعد منتصف الليل؛ مركز الإسعاف، بلاغ جديد عن مريض بكورونا". تابع: "بضع دقائق... أصوات النحيب تقترب وتسبق أقدامنا الراكضة على الدرج، أنا الآن أمام العم السبعيني، الجسد المرهق المزرق، الصدر الذي خان صاحبه، أنفاس بلا جدوى، أسطوانة أوكسجين عاجزة عن مساعدة هذا الجسد الضعيف، والروح ما زالت بكلّ قواها تحاول التمسك بالحياة، ومن حولنا رجال يبكون، ونساء يصحن: خذوه إلى المستشفى افعلوا له أيّ شيء... ساعدونا". أضاف: "نحن نعلم الواقع، فأسرَّة المستشفيات ممتلئة، والمرضى في الممرات بانتظار أن يفرغ سرير، وهناك صعوبة لشرح هذه التفاصيل للأهل تزداد في كلّ مرة، ويزداد معها اللوم علينا بلا ذنب؛ شعور العجز بينما يداي مكبلتان، ولا أملك سوى قلبي الذي يشعر بك ويأسف لآلامك يا عم. أمسك تلك اليدين الباردتين اللتين لم تعودا تقويان على إسناد الجسد، عاجز عن فعل أيّ شيء سوى أن أقول لك: نحن معك يا عمو... أنت سوف تتحسن".

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

وقال في ما كتبه: "الوقت يمرّ بانتظار قبول من أيّ مستشفى، في الانتظار يمرّ شريط من الصور، أهلي وأصدقائي... الله لا يجربنا. ساعة من الانتظار تمرّ، قلبي يعتصر مع كلّ نفس يحاول جاهداً أخذه. جاء الرد مخيباً مثل كلّ يوم من كلّ المستشفيات: لا أسرّة. يضغط على يدي ويلتقط أنفاسه، وبكلّ قوته يحاول نطق بضع كلمات، بصعوبة استطعت فهمها، وليتني لم أستطع، فقد أشار إلى أسطوانة الأوكسجين قائلاً: أطفئها لم تعد تنفعني وربما يحتاجها أحد غيري غداً". وختم الزهنان: "خرجت ولم أستطع منع نفسي من البكاء، انتهت مهمتنا... ليس بمقدورنا فعل أيّ شيء غير الدعاء له".

المساهمون