"هذه القصة حقيقية، وقعت مجرياتها في ولاية مينيسوتا عام 1987، بطلبٍ من الناجين تمّ تغيير الأسماء واحتراماً للموتى رويت البقية كما حدثت بالضبط". تظهر هذه الجملة في افتتاحية فيلم الجريمة والكوميديا السوداء Fargo الذي منح الأخوين جويل وإيثان كووين أوسكارًا لأفضل نص وجائزة "مهرجان كان" لأفضل إخراج عام 1996، ومع شارة النهاية للفيلم كان غريبًا وجود إحدى الكليشيهات المعتادة التي تقرّ بأن جميع الشخصيات والأحداث مختلقة. رغم هذا الإقرار الصريح وصدور تصريحات عدة للأخوين كووين تفنّد الجملة الافتتاحية كوسيلة لتقديم قصّة مختلفة كان الجمهور لينفر منها لولا وهمه بأن ما يراه مستوحىً من قصّة حقيقية، إذ انتشرت في التسعينيات قصص وأساطير عن أشخاص ذهبوا في رحلة بحثٍ عن حقيبة النقود التي بقي مصيرها مجهولًا تحت ثلوج مدينة فارغو في داكوتا الشمالية، حيث تركها الفيلم السينمائي.
بعد ذلك بعام، حصلت أوّل محاولة للعمل على إطلاق مسلسل يتوسّع في القصّة، لكن الحلقة الأولى التي أخرجتها الممثلة كاثي بيتس تم رفضها من الشبكات وألغي العمل، غير أنّ المسلسل المستوحى من الفيلم الذي بدأ عرضه عام 2014 حقق النجاح المرجو وقدّم رؤيةً فنيةً لما يصطلح عليه اليوم باسم (تجاوز الحقيقة/ Post-Truth). أنتجت العمل شبكة FX بمشاركة الأخوين كووين، بوصفهما منتجين تنفيذيين، وأوكلت مهمة كتابة السلسلة الأنطولوجية المبنية على الفيلم إلى الروائي نوح هاولي. حين ندخل إلى منصة نتفلكس الآن، سنجد أن المسلسل مصنّف تحت بند الـ Trending now.
حافظ هاولي على افتراض واقعية القصّة وكثّف جرعات العنف والكوميديا، ليكون عدد الجثث في الموسم الأول 40 ويزيد في الثاني عن 60، علمًا أن كل موسم مؤلف من 10 حلقات فقط. رسم هاولي لكلّ موسم قصة مختلفة بشخصيات جديدة في فترات زمنية متباعدة، من دون أن يقترب من مادة الفيلم الأصلية إلا في حبكة فرعية بسيطة من الموسم الأوّل كتحيةٍ لمحبي الفيلم، صاغ بها مآل حقيبة النقود الضائعة. وعلى ذلك، فإن الموسم الأول غطى حقبة زمنية عام 2006، وتبعه الثاني عائدًا إلى السبعينيات، بينما قدّم الموسم الثالث رؤية لنهاية عام 2010، وتتقاطع المواسم الثلاثة مع بعضها في ظهور بعض الشخصيات بمراحل عمرية مختلفة، كونها جميعًا تجري في واقع متخيّل للمكان نفسه.
الحتمية واللاجدوى
لا يخفي العمل أفكاره ولا يسعى لتجميلها، بل يضعها بفجاجة لا تخلو من السخرية أمام الجمهور؛ وفي أحيان أخرى أفرد شخصية لا تشارك في الأحداث، بل تكتفي بقراءة كتبٍ لمفكرين أمثال نيتشه وألبير كامو، ويضع العمل ثقله على الخيارات البسيطة للشخصيات؛ فهذه الخيارات التي لا تبدو ذات أهمية تنطوي على تغيير هائل في حيواتهم وتسارع وصول كلٍّ منهم إلى قدره المحتوم وسط أزماتهم الأخلاقية، وتسير القصّة الواحدة على مستويات عدة، قبل أن تتحطم الفوارق في ما بينها عند نهاية كل موسم، ليظهر أن كل ما يحصل ليس ذا قيمةٍ فالنهاية وشيكة للجميع ولن يغيّرها سلوكٌ لحظي أو موقف أخلاقي.
يتنقل العمل عبر مساحاته المتجمّدة بأداء رصين من كادره المتغيّر وفق مدرسة إخراجية تضج بالألوان بحيث توافق كل مرحلة زمنية، من دون تكرار في أسلوب السرد؛ فلكل موسم ثيمته والقصّة التي يرويها بإسقاطاتها المختلفة، ولا بدّ من ذكر أن الروائي الشهير ستيفين كينغ قال عن Fargo إنه أفضل ما عرض على التلفاز في آخر ثلاثة أعوام قبيل نهاية موسمه الثاني.
هكذا وضع المسلسل معايير خاصّة به يتفوّق عليها في كل موسم؛ بدءًا بإظهار غزو فضائي حصل في السبعينيات، وصولًا إلى إدخال الأنيميشن في الموسم الثالث، وإن كان الموسم الأخير لم يعط تركيزًا كبيرًا لمحور الجريمة بقدر اهتمامه بمعنى الحقيقة ومعنى القصة، ونستدل على هذا من قلّة عدد القتلى مقارنة بما سبقه؛ فآثر أن يبدأ كل حلقة بكذبة تترافق مع عبارات توثيقية للحدث، كأن يكون في معتقلات ألمانيا الشرقية أو حديثًا عن تزييف وصول الإنسان إلى القمر. كما أغرق شخصياته بقصصها المرجعية كأسلوب لتبرير أفعالها ووضعها في سياقٍ معين من دون أن يتشكّل للمشاهد اهتمام بمدى وثوقية القصّة، بيد أنه يعرف ما ستقدم الشخصية على فعله؛ وهذا أسمى تبيان لمصطلح "تجاوز الحقيقة" الذي صنّفته أوكسفورد كـ كلمة عام 2016.
ما بعد الحقيقة
بدأ استعمال مصطلح Post-Truth بُعيد حرب الخليج الثانية، ويفضي تعريفه إلى أن الحقائق والظروف الموضوعية تصبح أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام الذي يتّبع المشاعر والمعتقدات الشخصية؛ بكلماتٍ أخرى أي اجتزاء الحقيقة والتوصّل إلى الاستنتاج الذي يلائم أهواء المتحدّث، وكثر استخدام المصطلح مع وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يرزح الموسم الثالث من العمل تحت هذا الوصف، ويدفع شخصياته نحو أقصى استطاعتهم من الاحتمال، فتارةً تلوي شخصية المحقّقة الحقائق للوصول إلى استنتاج متطرّف يطابق في حقيقة الأمر ما حصل، لكنها تصطدم بعد هذا بصدفة تطابق استنتاجها لتبتعد عمّا جرى فترفض ربطه بما توصلّت إليه، وهذا ينسف أن ما توصلت إليه المحققة - التي تمثّل الخير - كان نتيجة استنتاجات لا تبدو منطقية للآخرين إنّما هو ناتج عن معتقداتها وما تراه حقيقيًا، وهكذا لا تختلف عن الشخصية الشريرة التي تعتمد الأسلوب ذاته في الوصول إلى مبتغاها، هذا الاختبار الحقيقي للمشاهد والشخصيات ينهي الموسم بمواجهة الشخصيتين وافتراض كل منهما لما سيحصل من دون أن نختبر النهاية على الشاشة.
بعد ذلك بعام، حصلت أوّل محاولة للعمل على إطلاق مسلسل يتوسّع في القصّة، لكن الحلقة الأولى التي أخرجتها الممثلة كاثي بيتس تم رفضها من الشبكات وألغي العمل، غير أنّ المسلسل المستوحى من الفيلم الذي بدأ عرضه عام 2014 حقق النجاح المرجو وقدّم رؤيةً فنيةً لما يصطلح عليه اليوم باسم (تجاوز الحقيقة/ Post-Truth). أنتجت العمل شبكة FX بمشاركة الأخوين كووين، بوصفهما منتجين تنفيذيين، وأوكلت مهمة كتابة السلسلة الأنطولوجية المبنية على الفيلم إلى الروائي نوح هاولي. حين ندخل إلى منصة نتفلكس الآن، سنجد أن المسلسل مصنّف تحت بند الـ Trending now.
حافظ هاولي على افتراض واقعية القصّة وكثّف جرعات العنف والكوميديا، ليكون عدد الجثث في الموسم الأول 40 ويزيد في الثاني عن 60، علمًا أن كل موسم مؤلف من 10 حلقات فقط. رسم هاولي لكلّ موسم قصة مختلفة بشخصيات جديدة في فترات زمنية متباعدة، من دون أن يقترب من مادة الفيلم الأصلية إلا في حبكة فرعية بسيطة من الموسم الأوّل كتحيةٍ لمحبي الفيلم، صاغ بها مآل حقيبة النقود الضائعة. وعلى ذلك، فإن الموسم الأول غطى حقبة زمنية عام 2006، وتبعه الثاني عائدًا إلى السبعينيات، بينما قدّم الموسم الثالث رؤية لنهاية عام 2010، وتتقاطع المواسم الثلاثة مع بعضها في ظهور بعض الشخصيات بمراحل عمرية مختلفة، كونها جميعًا تجري في واقع متخيّل للمكان نفسه.
الحتمية واللاجدوى
لا يخفي العمل أفكاره ولا يسعى لتجميلها، بل يضعها بفجاجة لا تخلو من السخرية أمام الجمهور؛ وفي أحيان أخرى أفرد شخصية لا تشارك في الأحداث، بل تكتفي بقراءة كتبٍ لمفكرين أمثال نيتشه وألبير كامو، ويضع العمل ثقله على الخيارات البسيطة للشخصيات؛ فهذه الخيارات التي لا تبدو ذات أهمية تنطوي على تغيير هائل في حيواتهم وتسارع وصول كلٍّ منهم إلى قدره المحتوم وسط أزماتهم الأخلاقية، وتسير القصّة الواحدة على مستويات عدة، قبل أن تتحطم الفوارق في ما بينها عند نهاية كل موسم، ليظهر أن كل ما يحصل ليس ذا قيمةٍ فالنهاية وشيكة للجميع ولن يغيّرها سلوكٌ لحظي أو موقف أخلاقي.
يتنقل العمل عبر مساحاته المتجمّدة بأداء رصين من كادره المتغيّر وفق مدرسة إخراجية تضج بالألوان بحيث توافق كل مرحلة زمنية، من دون تكرار في أسلوب السرد؛ فلكل موسم ثيمته والقصّة التي يرويها بإسقاطاتها المختلفة، ولا بدّ من ذكر أن الروائي الشهير ستيفين كينغ قال عن Fargo إنه أفضل ما عرض على التلفاز في آخر ثلاثة أعوام قبيل نهاية موسمه الثاني.
هكذا وضع المسلسل معايير خاصّة به يتفوّق عليها في كل موسم؛ بدءًا بإظهار غزو فضائي حصل في السبعينيات، وصولًا إلى إدخال الأنيميشن في الموسم الثالث، وإن كان الموسم الأخير لم يعط تركيزًا كبيرًا لمحور الجريمة بقدر اهتمامه بمعنى الحقيقة ومعنى القصة، ونستدل على هذا من قلّة عدد القتلى مقارنة بما سبقه؛ فآثر أن يبدأ كل حلقة بكذبة تترافق مع عبارات توثيقية للحدث، كأن يكون في معتقلات ألمانيا الشرقية أو حديثًا عن تزييف وصول الإنسان إلى القمر. كما أغرق شخصياته بقصصها المرجعية كأسلوب لتبرير أفعالها ووضعها في سياقٍ معين من دون أن يتشكّل للمشاهد اهتمام بمدى وثوقية القصّة، بيد أنه يعرف ما ستقدم الشخصية على فعله؛ وهذا أسمى تبيان لمصطلح "تجاوز الحقيقة" الذي صنّفته أوكسفورد كـ كلمة عام 2016.
ما بعد الحقيقة
بدأ استعمال مصطلح Post-Truth بُعيد حرب الخليج الثانية، ويفضي تعريفه إلى أن الحقائق والظروف الموضوعية تصبح أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام الذي يتّبع المشاعر والمعتقدات الشخصية؛ بكلماتٍ أخرى أي اجتزاء الحقيقة والتوصّل إلى الاستنتاج الذي يلائم أهواء المتحدّث، وكثر استخدام المصطلح مع وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يرزح الموسم الثالث من العمل تحت هذا الوصف، ويدفع شخصياته نحو أقصى استطاعتهم من الاحتمال، فتارةً تلوي شخصية المحقّقة الحقائق للوصول إلى استنتاج متطرّف يطابق في حقيقة الأمر ما حصل، لكنها تصطدم بعد هذا بصدفة تطابق استنتاجها لتبتعد عمّا جرى فترفض ربطه بما توصلّت إليه، وهذا ينسف أن ما توصلت إليه المحققة - التي تمثّل الخير - كان نتيجة استنتاجات لا تبدو منطقية للآخرين إنّما هو ناتج عن معتقداتها وما تراه حقيقيًا، وهكذا لا تختلف عن الشخصية الشريرة التي تعتمد الأسلوب ذاته في الوصول إلى مبتغاها، هذا الاختبار الحقيقي للمشاهد والشخصيات ينهي الموسم بمواجهة الشخصيتين وافتراض كل منهما لما سيحصل من دون أن نختبر النهاية على الشاشة.