في اليوم التالي لفضح القناة الرابعة لحقيقة "الملف"، أصدر مكتب بلير بياناً اعترف بخطأ عدم توثيق مصادره، لكنه أصّر على صحة المعلومات الواردة في الملف. ومنذ ذلك اليوم، بات ملف "الأدلة الاستخباراتية الدامغة" يُعرف إعلامياً بـ"ملف الخدعة" الذي لفّقه بلير ومستشاروه لتبرير انضمام بريطانيا للولايات المتحدة في غزوها للعراق في العام 2003.
اقرأ أيضاً: بريطانيا وكابوس غزو العراق: نتائج "تحقيق شيلكوت" مؤجلة
"لقد خدعنا بلير"، "لقد كذب علينا بلير"، "لقد ضللنا بلير"، عبارات تُلخص جوهر تصريحات كثيرة صدرت ولا تزال تصدر عن مسؤولين ومواطنين بريطانيين بعدما فشل الغزو الأميركي البريطاني في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق. واتهمت وزيرة التنمية الدولية السابقة، كلير شورت، بلير بـ"الكذب عليها وتضليل البرلمان"، فقد كشفت الأدلة أنه لم يكن يقول الحقيقة في تلك المرحلة. أما عضو مجلس الوزراء السابق، روبن كوك، فقد أكد قبل وفاته أن بلير "كذب متعمداً على الشعب البريطاني حول الخطر الذي تشكله أسلحة صدام لتبرير وعد قطعه للرئيس الأميركي جورج بوش التزم به بالمشاركة العسكرية في غزو العراق".
كذب ولو صدق
رغم مرور ما يقارب 11 عاماً على غزو العراق بناء على المعلومات التي وردت في "ملف الخدعة"، إلا أن الغالبية العظمى من الرأي العام البريطاني، بمن في ذلك العديد من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين والأمنيين، لم ينسوا لبلير كذبه وتضليله، ولا سيما أن غزو العراق كبّد بريطانيا الكثير من الخسائر البشرية والمادية، ناهيك عن فشله في تحقيق الأمن والاستقرار للعراق، بل إن نتائجه الراهنة تعاكس وعود بوش ـ بلير التي كانت تروج لشرق أوسط خال من الإرهاب وأكثر أمناً واستقراراً بعد سقوط نظام صدام حسين.
لم يعد أحد يُصدق بلير حتى لو صدق، وبرهان ذلك، تشكيك الكثيرين في صحة التحذير الذي أطلقه بلير في يونيو/حزيران من العام الماضي، عندما قال:"إذا لم تتدخل بريطانيا في العراق وسورية، فإنها ستواجه هجمات إرهابية في أراضيها". ومع أن بلير الذي حذّر البريطانيين من "كارثة شاملة"، استبعد خيار التدخل العسكري البري في العراق وسورية، لكنه دعا إلى عدم إسقاط خيار توجيه ضربات جوية لأهداف محددة في العراق وسورية. وأصر على أن أجهزة الاستخبارات في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تُدرك الخطر الداهم الذي يشكّله من يوصفون بـ"الجهاديين".
تحذيرات بلير من خطر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي يتمدد في سورية والعراق، وخطورة ذلك على الشرق الأوسط وبريطانيا، ذكّرت الكثير من الساسة والناشطين بـ"الملف الخدعة"، وحذّروا من الانجرار وراء دعوات بلير، ومن مخاطر التدخل العسكري مجدداً في العراق أو سورية. فقد قال نائب بلير عندما كان في رئاسة الوزراء، اللورد بريسكوت، إن بلير الذي "خذلنا في غزو العراق يدعونا اليوم إلى غزو آخر في بلد آخر". أما الوزيرة السابقة، كلير شورت فأكّدت أن "بلير كان دائماً على خطأ، والاستجابة إلى دعواته للحرب لن تأتي إلا بالمزيد من الدمار". فيما رأى زعيم حزب الاستقلال البريطاني، نايجل فراج، أنّ بلير "مخجل"، ودعا إلى "عقد لسانه". وأضاف أن "الدرس الذي يجب أن نتعلمه من غزو العراق، لا يكون بغزو بلد آخر أو العودة إلى العراق، بل بوضع نهاية لزمن التدخل العسكري في الخارج".
كابوس كذبة بلير
مع أن قرار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بتوسيع المشاركة البريطانية في الحرب ضد "داعش" إلى الأراضي السورية، لم يدخل حيز التنفيذ بعد بانتظار موافقة السلطة التشريعية، فإن كابوس "ملف خدعة" بلير قد يُؤجل أو ربما يُعطل هذه الموافقة إلى أبعد من أكتوبر / تشرين الأول المقبل. ويتجلى حضور "كابوس كذب بلير" في ثلاثة مستويات: في المستوى الأول، يبدو كاميرون متردّداً في ما يخص التدخل العسكري في سورية والعراق دون الحصول على تفويض واسع من الشعب والمؤسسات البريطانية، ودون مبررات تُقنع الرأي العام البريطاني بحقيقة خطر "داعش" وضرورة استئصال هذا الخطر في العراق وسورية قبل وصوله إلى المدن والشوارع البريطانية. وكأنّ كاميرون هنا يستحضر خطيئة "ملف بلير" الذي كذب على الشعب البريطاني ومؤسساته التشريعية، فكان أن دفع حزبه ثمناً سياسياً غالياً. في المستوى الثاني، تحرص حكومة حزب "المحافظين" على نيل تأييد حزب "العمال" المعارض لقرار توسيع العمليات الجوية لتشمل الأراضي السورية، حتى لا تتحمّل وحدها المساءلة أمام الرأي العام البريطاني المعارض لأي تدخل بريطاني في الحرب الدائرة في سورية والعراق، وكي لا تحترق وحدها بنيران الحرب، تماماً كما احترق حزب "العمال" وحده عندما انفرد بقرار المشاركة في غزو العراق في عام 2003، وأدى ذلك إلى خسارته الحكم في دورة 2010 والانتخابات الأخيرة التي جرت في مايو/أيار الماضي. أما المستوى الثالث والأخير فقد تجلى في دعوة عدد من النواب إلى تأجيل التصويت على قرار التدخل العسكري في سورية إلى ما بعد صدور تقرير "لجنة تشيلكوت" التي شكلها رئيس الوزراء السابق جوردون براون في يونيو/حزيران 2009 للتحقيق في الملابسات التي أدت إلى غزو العراق، بما في ذلك مدى مشروعية العمل العسكري، وعما إذا ما كان بلير تعهد لبوش بدعم الحملة التي تقودها الولايات المتحدة قبل الحصول على موافقة السلطة التشريعية. وقد انتهت اللجنة من عملها في فبراير/شباط 2011، وكان من المتوقع أن تنشر تقريرها قبل الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي.
اقرأ أيضاً: لجنة تحقيق: بلير يتحمل المسؤولية الأكبر عن غزو العراق
ورغم رفض رئيس الوزراء البريطاني ربط قرار التدخل العسكري في سورية بنشر تقرير "لجنة تشيلكوت"، إلا أن نواباً في مجلس العموم، يتقدمهم النائب المخضرم في حزب المحافظين، وأحد أشد المعارضين للتدخل العسكري في سورية، ديفيد ديفيس، يُصرون على أنه "لا ينبغي حتى التفكير في الذهاب إلى الحرب مرة أخرى في الشرق الأوسط حتى يتم استخلاص الدروس المستفادة من غزو العراق في العام 2003".
شبح يطارد "العمال"
لا تتوقف مفاعيل لعنة ملف "كذب بلير" على قرار المشاركة في قتال "داعش"، بل تطارد حزب "العمال" نفسه الذي خسر الانتخابات العامة في دورتي 2010 و2015، ولعلّ هذا ما دعا جيرمي كوربن المرشح الأوفر حظاً لرئاسة حزب "العمال" إلى الإعلان عن عزمه على الاعتذار عن الحرب في العراق إذا ما انتخب رئيسا للحزب في سبتمبر/ أيلول المقبل. وقال كوربن المعروف بمواقفه المناهضة للحرب، في مقابلة مع صحيفة "ذا غارديان" البريطانية: "حان الوقت ليقدم حزب (العمال) اعتذاره إلى الشعب البريطاني عن جرّه إلى الحرب في العراق على أساس كذبة، وإلى الشعب العراقي على المعاناة التي ساهمنا في التسبب بها".
وذهب كوربن إلى أبعد من ذلك عندما أعلن احتمال تقديم بلير إلى المحاكمة كمجرم حرب بسبب اتخاذه قرار المشاركة في الحرب على العراق عام 2003 من دون الحصول على موافقة من الأمم المتحدة. وقال كوربن لبرنامج "نيوز نايت" الذي تُقدِّمه القناة الثانية لهيئة الإذاعة والتلفزيون البريطاني (بي بي سي): "كل شخص يرتكب جريمة حرب يجب محاكمته". ومضى قائلاً: "على بلير أن يعترف بالتفاهمات التي تمت بينه وبين الرئيس الأميركي جورج بوش قبل الحرب على العراق". ولعلّ هذه التصريحات ما دفعت بلير إلى التحذير من وصول كوربن إلى قيادة حزب "العمال"، قائلاً إن "حزب (العمال) مهدّد بأكبر خطر يتعرّض له في تاريخه، الذي يمتد منذ 100 عام، وأنه يواجه احتمال الزوال والفناء، إذا انتُخب المرشح اليساري جريمي كوربن لقيادة الحزب".