تسيطر مشاعر الغضب والمرارة على الثلاثيني الجزائري، محفوظ شاور بعد إصابة طفلته ذات العامين آلاء، بالتهاب الكبد الفيروسي سي، أثناء وجودها بالمركز الاستشفائي الجامعي نفيسة حمود في العاصمة الجزائرية، وما لبثت أن فارقت الحياة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
آلاء واحدة من 13 طفلا أصيبوا بالتهاب الكبد الفيروسي سي، في مستشفى نفيسة حمود (بارني سابقا)، وهو ما أدى إلى إغلاق جزئي للمشفى لمدة شهرين وفتح تحقيق، "لم يخلص إلى نتائج قاطعة حول أسباب الإصابة حتى اليوم" بحسب تصريح قدمه رئيس مصلحة طب الأطفال البروفيسور مكي عز الدين، لـ"العربي الجديد" قبل أن يستدرك قائلا: "مصدر الفيروس لا بد أن يكون أحد المرضى، لأن كل نتائج التحاليل التي أجريت للمستخدمين في كل المستشفى سلبية".
1.5 مليون مصاب وانتشار الوباء في شرق البلاد
تحصي الجزائر 1.5 مليون مصاب بالتهاب الكبد الفيروسي، 200 ألف منهم يحملون الفيروس القاتل ج، بينهم موظفون في قطاع الصحة أصيبوا بالعدوى بسبب عدم احترام شروط ممارسة المهنة، خصوصاً التعقيم واحترام مراحل التنظيف وفق تصريح نائبة رئيس الجمعية الوطنية لأمراض الكبد الفيروسي زهية بكة.
وحصل معد التحقيق بعد ست زيارات إلى وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات الجزائرية على إحصائيات صادرة عن مصلحة الوقاية والأمراض المنتقلة تظهر الحالات الجديدة لالتهاب الكبد الفيروسي ج في كل ولايات الجزائر (48 محافظة) إذ سجلت الجزائر 3624 إصابة جديدة بين 2011 وحتى 2016، وتصاعدت الحالات الجديدة في عام 2015 إذ أصيب 959 جزائريا بالفيروس، في حين كانت ولاية تبسة الواقعة أقصى شرق الجزائر أكبر مناطق الجزائر إصابة بالفيروس، وهو الحال ذاته لولايات أم البواقي وسوق أهراس وباتنة المتجاورة.
تعلق النائب في المجلس الشعبي الوطني عن ولاية تبسة سميرة ضوايفية، على الإحصاءات الخاصة بالمرض، كاشفة إنها وجهت سؤالا كتابيا في شهر سبتمبر/أيلول من السنة الماضية لوزير الصحة وإصلاح المستشفيات، عبد المالك بوضياف، عن الموضوع وتسلمت الإجابة عنه يوم 5 ديسمبر، وجاء فيها "أن نسبة حدوث التهابات الكبد الفيروسية ج "سي" في ولايتها لا تختلف عن المعدل المسجل على المستوى الوطني، بينما تظهر الإحصائيات الرسمية التي تنفرد العربي الجديد بكشفها، أن المعدل الوطني كان في حدود 20 حالة سنة 2015 بينما سجلت تبسة 133 حالة (أكثر من ستة أضعاف)، وفي سنة 2016 كان المعدل الوطني يقارب 17 حالة جديدة منها 75 حالة في تبسة (أكثر من أربعة أضعاف).
الإهمال الطبي وجهود الوزارة
تقول نائبة رئيس الجمعية الوطنية لأمراض الكبد الفيروسي زهية بكة، والتي تعمل في المستشفى الجامعي مصطفى باشا (من أكبر المستشفيات الجزائرية) إن المرافق الصحية العمومية في كل أنحاء البلاد أصبحت أقل عرضة لانتقال المرض مقارنة مع العيادات الخاصة التي توظف ممرضين غير مؤهلين للمحافظة على صحة المريض، ودعت في هذا السياق إلى توسيع البرنامج التدريبي الذي تشرف عليه وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات لتخريج ممرضين مؤهلين يحترمون قواعد ممارسة المهنة ويحافظون على صحتهم وصحة المريض.
بالمقابل، يرى محي الدين أبو بكر الصديق، الأمين العام للمنظمة الجزائرية لضحايا الأخطاء الطبية، في لقاء مع "العربي الجديد" عكس ذلك، إذ يرجح أن مكان انتقال عدوى التهاب الكبد داخل المصحات العمومية منتشر بشكل كبير، ولا يقل عن العيادات الخاصة وعيادات طب الأسنان، ويرجع المتحدث ذلك إلى التسيير الكارثي للمنشآت الصحية في الجزائر وسياسة اللاعقاب المنتهجة من قبل المسؤولين عن القطاع.
ويعتقد محي الدين وهو أحد ضحايا الأخطاء الطبية أن برنامج وزارة الصحة الوقائي حبر على ورق، بينما يتساءل عن فاعلية الحملات التوعوية التي تقوم بها وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات.
وردّت الدكتورة سامية حمادي، نائب مدير الوقاية والأمراض المنتقلة التي التقاها معد التحقيق في مكتبها بمقر وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات على ما أثارته بكة ومحي الدين، مشددة على أن مصالح الوزارة تقوم بدورها في مكافحة المرض والوقاية منه، من خلال برنامج متكامل يبدأ بالتلقيح وحملات التوعية ولا ينتهي بتوفير الدواء الجديد مجانا في المستشفيات العمومية فقط، إذ قامت الوزارة حسبها بإنشاء مراكز مرجعية في المستشفيات الكبرى للتكفل بالمرضى لضمان الرعاية ومراقبة الحالات بدقة.
انتقال الفيروس بسهولة وصعوبة تحديد المسؤولية
تظهر وثيقة صادرة عن مستشفى نفيسة حمود، حصلت عليها "العربي الجديد" أن التحليل الذي أجري للطفلة آلاء بتاريخ 8 أغسطس 2016 بعد دخولها للمركز الاستشفائي الجامعي في العاصمة (يبعد عن مقر سكناها في مدينة جانت 2300 كلم) كانت نتيجته سلبية، في حين تأكد إصابتها بالتهاب الكبد الفيروسي من صنف ج (سي) من خلال تحاليل أخرى أجرتها العائلة خارج المستشفى، وبالضبط في معهد باستور بتاريخ 19 سبتمبر/أيلول 2016، حسب ما تبرزه الوثيقة الثانية التي اطلعت عليها "العربي الجديد" وهو ما يعتبره والد الطفلة دليلا على حقن ابنته بدم ملوث أثناء علاجها من مرض السرطان مادامت لم تقم بحلق شعرها ولم تزر طبيب الأسنان في تلك الفترة، أي كل ما من شأنه أن يتسبب في إصابتها بالمرض.
غير أن رئيس مصلحة طب الأطفال مكي عز الدين يرى أن الموضوع خرج عن سياقه العلمي وتم استغلاله من قبل نواب في البرلمان ووالدة الطفلة مؤكداً أن الفترة الفاصلة بين الإصابة بالفيروس وظهور نتائج التحاليل قد يصل إلى ثلاثة أشهر، وهو ما يفسر –حسبه- الاختلاف الموجود في نتيجة التحاليل التي أجريت للطفلة آلاء شاور ليستخلص أن دخول الأخيرة للمستشفى وهي تحمل الفيروس احتمال قائم، وعن الإجراءات التي تم اتخاذها لعلاج الثلاثة عشر طفلا المصابين بالفيروس خلال وجودهم في المشفى، شدد على التكفل بكل الحالات الباقية إذ استجاب معظمها للعلاج.
من جهته، يعتبر بقاط بركاني رئيس المجلس الوطني لعمادة الأطباء الجزائريين أن تحديد المسؤولية في الأمراض المعدية صعب جدا، وقال في اتصال عبر الهاتف مع "العربي الجديد" إن الوقاية هي ملكة الحلول واسترسل في هذه النقطة من خلال مقترح سابق تم تقديمه لوزارة الصحة من أجل إيجاد صيغة مع البنوك لاستفادة الأطباء، وخصوصاً أصحاب عيادات طب الأسنان من أدوات التعقيم الحديثة بصيغة القروض.
خزينة الدولة تتكبد خسائر بملايين الدولارات
لا تتردد النائب ضوايفية في تحميل وزير الصحة وإصلاح المستشفيات عبد المالك بوضياف ومدير الصحة في تبسة مسؤولية انتشار المرض، لتتهم الطرفين صراحة بارتكاب ما تسميه جريمتين "الأولى بالتقصير المؤدي إلى انتشار المرض في المستشفيات وعيادات طب الأسنان والثاني بإهدار المال العام من خلال اقتناء الأدوية الموجهة للمصابين بالمرض التي تبلغ 294 ألف دينار (ما يعادل 2650 دولاراً) جزائري للحالة الواحدة".
يرد منجي مستوري مدير الصحة بولاية تبسة على الاتهام ويذهب بعيداً في تكذيب الإحصائيات الرسمية، قائلا في مكالمة هاتفية مع معد التحقيق إن "عدد المصابين في ولاية تبسة قليل مقارنة بالولايات الأخرى"، أما مصدر المرض في رأي المسؤول التنفيذي عن الصحة في الولاية فهو "إرادة الله" وليس التقصير، كما جاء على لسان ضوايفية.
وتحصي الجزائر سنويا 604 حالات جديدة لالتهاب الكبد الفيروسي من صنف ج كمتوسط حسابي للسنوات الست الأخيرة، وهو ما يكبد خزينة الدولة مليوناً و600 ألف دولار كتكلفة للعلاج، في وقت وصلت تكلفة علاج مرضى التهاب الكبد الفيروسي 18 مليون دولار سنة 2015 حسب تصريح لوزير الصحة وإصلاح المستشفيات خلال كلمة له في الملتقى الوطني حول التهاب الكبد الفيروسي في شهر يوليو الماضي.
عقوبات قانونية قد يسقطها التضامن المهني
تنص المادة 239 من القانون الجزائري لحماية الصحة وترقيتها على متابعة مستخدمي الصحة طبقا لأحكام المادتين 288 و 289 من قانون العقوبات على كل تقصير أو خطأ مهني يرتكب خلال ممارسة مهامه أو بمناسبة القيام بها، ويلحق ضرراً بالسلامة البدنية لأحد الأشخاص أو بصحته حسب إفادة قدمها المحامي عمار خبابة.
يشرح خبابة لـ"العربي الجديد" الإجراءات المتبعة في هذا المجال، إذ يقول إن المتضرر مخير بين اللجوء للقضاء المدني أو الإداري من جهة أو اللجوء إلى القضاء الجزائي للمطالبة بالتعويض من جهة أخرى، ووقع اختيار والد آلاء محفوظ شاور على الأخير لاسترداد ما يصفه بـ "حقوق ابنته الراحلة والمجتمع ووضع حد للاستهتار بصحة المرضى الجزائريين داخل المستشفيات والتسبب في معاناة عائلات بأكملها".
ويعتقد خبابة أن الطبيب ما زال يحظى بنوع من القدسية إذ إن الأطباء الذين تنتدبهم المحكمة لوضع تقرير عن الحالة محل الشكوى لتستند له المحكمة في حكمها، عادة ما يكونون من نفس القطاع الصحي، وهو ما يعفي الطبيب غالبا من المسؤولية نتيجة التضامن المهني، ويجعل من الأحكام القضائية غير منصفة في نظر المتضررين من الأخطاء الطبية.
حسنا إنهما خياران صعبان، والكلام لرئيس المجلس الوطني لعمادة الأطباء، بقاط بركاني، الذي أوضح أن الطبيب عندما يدخل إلى غرفة العمليات في المستشفى ليجري تدخلا جراحيا مستعجلا لإنقاذ حياة مواطن ويجد شروط التعقيم والنظافة غير متوفرة، عليه أن يختار إما أن يترك المريض عرضة للموت، أو يجري عملية قد تكون نتيجتها إصابته بأحد الفيروسات ومنها التهاب الكبد.