ثنائية الإعلام والسياسة، بل و"الانتفاضة" هنا، هي لعبة المخرج التشيلي بابلو لارين (38 عاماً) الأثيرة، والتي يقاربها بحساسية بالكاد تفلت منه، إلا لماماً، على طول فيلمه "لا" (118 دقيقة) مجسداً الصراع "التسويقي" بين حملة المعارضة، وحملة السلطة التي تُغرق أثير البث التلفزيوني بـ"نعم" للقائد المخلّص. الشريط الذي عرضته في بيروت مؤخراً تظاهرة "أسبوع أفلام الانتخابات" (مهرجان "عوالم متشابهة") التي اختتمت قبل أيام؛ يُقاربُ دور الإعلام، والإعلان تحديداً، في الأيام الأخيرة قبيل سقوط ديكتاتور تشيلي، أوغستو بينوشه (1915-2006) عبر التوغل في كواليس الحملة الدعائية التي نظّمها معارضو الطاغية تحت شعار "لا" عام 1988، والذي أجبرت فيه الضغوط الخارجية "النظام" في تشيلي على تنظيم استفتاء شعبي لتقرير مدى شرعية رغبة الأخير في تمديد حكمه للبلاد.
محرّك شريط "لا" السينمائي، رينيه (يلعب دوره يائيل غارسيا برينال)؛ مخرج إعلانات تستنجد به المعارضة التشيلية، التي ما تنفك تنفي عن نفسها تهمة "الشيوعية"، بغرض تنفيذ حملة لإقناع الجمهور/الشعب بالتصويت ضد بينوشه. وفي حين يفضل رموز المعارضة ومثقفوها خياراً إخراجياً "مثالياً" مُستمداً من مشهديات الأرشيف الدموي لحكم العسكر، والمتمثل بمئتي ألف قتيل، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمفقودين الذين قامت على عظامهم أركان السلطة القمعية مدة 17 عاماً؛ يذهب خبير الدعاية الشاب إلى خيار أقلّ "تراجيدية" برسمه خلفية خفيفة من ألوان قوس قزح، واقتراحه موسيقى جذلة من ألبومات الشباب المفعم بالحيوية والتفاؤل، وصولاً إلى شعار "السعادة قادمة".
دور البطل بملامحه التكنوقراطية في هذا الفيلم، يختلف عمّا أدّاه المكسيكي برينال في فيلم معروف آخر هو "مذكّرات دراجة نارية" (2004)، والذي لعب فيه دور المناضل الأشهر تشي غيفارا. فشخصية رينيه هنا بعيدة كل البعد عن هالات القيادي الثوري المتخفي الذي ينطق حِكماً أنّى التفت أمام مريديه. بل هي أقرب إلى ذهنية المسؤول التنفيذي الباردة أحياناً، مقارنة بسخونة الجو السياسي المشحون من حولها. فـ "البطل" يتنقل على لوح تزلج (سكيت بورد)، ويظهر نقيضاً لشخصية زوجته السابقة، فيرونيكا (تؤديها أنطونيا زيغرز، وزوجة مخرج الفيلم)، والتي تبدو لنا أكثر "مبدأية" منه. بل إننا سنرى رينيه في أحد المشاهد وهو يكرر على مسامع مديره النقد ذاته الذي وجهته فيرونيكا إلى عمله هو: "كل هذا هو مجرد عمل منسوخ، عن عمل منسوخ، عن عمل آخر منسوخ".
بيد أنّه يمكن لنا أيضاً، أن نستقبل تلك الـ"لامبالاة الظاهرية" لدى رينيه باعتبارها توليفية اخترعها مخرج العمل كي يموضع بطله خارج خريطة الخنادق الأيديولوجية التي يتمترس وراءها أطراف النزاع السياسي. وبالتالي، فهو يتيح لجمهوره فرصة ليكون على مسافة نقدية متوازنة، من أبطال الصراع الدرامي، كي يهضم العناصر المعقدة الأخرى في اللعبة الإعلامية/ السياسية التي تدور أحداثها أمامه.
يفتح فيلم لارين عيوننا بهدوء على صناعة اللغة الإعلانية التي يمكن لها أن تتكئ بسلاسة مخيفة على المفردات القومية المتعالية، التي تنطق جزافاً باسم الشعب، والحداثة، والإنجازات الخالدة. مداعبة المخيال الوطني حدّ الفاشية أحياناً، سواء أتت من طرف السلطة، أم من طرف النخبة المعارضة التي هي على صورة سلطتها ومثالها في مناسبات كثيرة. واللغة الأخرى، التي تلهث وراء جناس استهلاكي مع أسئلة الوجود الإنساني الباحث عن معاني السعادة والانعتاق. ولكل من هاتين اللغتين حظوة ما في ذهن المتلقي، فيما تبقى الغايات القصوى لهذه "الحملات" رهينة تأويل الرسالة باعتبارها توعية، أم مجرد تلقين مدرسي.
صور "القائد الرمز" بكل الأزياء: العسكرية، والرسمية، والشعبية، وبكل الحلات: غاضباً، حازماً، ضاحكاً، ممازحاً، متأثراً. وبالطبع، لاعباً لاهياً مع الأطفال، ممارساً رياضة تقبيل الوجنات الصغيرة المتوردة، والتي ينتهي بها المطاف "الوطني" في صف كورال يغني لمجده الأبدي بأصوات ملائكية، توشك، لولا فلاتر رقيب الشاشة الرسمية، أن تقطر دماً.
الكاميرا وراء الكاميرا، والمخرج وراء المخرج. ومزيج الروائي المتخيل، مع التسجيلي التوثيقي، خلطة سينمائية تجيد دوزنة المقادير، وإضافة العناصر، أو تقليمها عند الضرورة. بالتضافر مع بنية النص المكتوب للفيلم، والتي وضعها (اقتباساً عن مسرحيته "الاستفتاء") أنطونيو سكارميتا، من منفاه الألماني القديم.
ليبقى في نهاية الشريط سؤال البداية ذاته مفتوحاً مع مخرج الإعلانات الذي تُتوج "حملته" بإقصاء الطاغية. لكننا سرعان ما سنراه في لقطة أخيرة يسوّق لـ"منتج" استهلاكي جديد، بالطريقة "الثورية" ذاتها. وللمشاهد أن يستقرئ ما شاء في عيون رينيه الذي يميل نحونا برأسه. هل هي نظرة حزن على انقضاء "القضية" والعودة إلى روتين "العمل"؟ أم هي الخيبة من أنّ الانتفاضة لم تغير موقعه على خارطة وجوده كفرد، رغم أنّها غيّرت وجه السياسة والتاريخ في بلاده ككل؟
مع "لا"، نسترق النظر إلى عالم الإعلان التسليعي، حيث الفرح المسعور بمزيل بقع الغسيل، والنيرفانا المنبثقة مع فتح غطاء زجاجة مشروب غازي؛ يوازيان، على التلفزيون، الشعور بالتحقق الإنساني بعد انتصار ثورة شعبية سلمية.