هي مفارقة محيّرة وساطعة في إسبانيا؛ كيف يمثّل الثور رمزاً وطنياً جامعاً، فيكاد يكون حيواناً مقدّساً وعنوان هوية، وفي الوقت نفسه يُترَك لموت بطيء وقاس في سبيل فرجة تدوم بعض الدقائق؟
يعترف الإسبان أنفسهم بغرابة هذا المكوّن في شخصيّتهم، ولكن هذا التناقض كثيراً ما يبدو مدخلاً للإمساك بفهمٍ للروح الإسبانية، فمع حفلة الكوريدا تتمظهر عناصر شتى من ثقافة البلاد في إطار واحد: حول طقوس الدم، هناك مرح اللعب، ومعمار الأرينا، وألوان متضاربة، ساخنة وباردة، وموسيقى وضجيج، وأزياء وشخصيات موزّعة الأدوار بعناية لصناعة هذه الفرجة العجيبة.
كان أومبرتو إيكو يعتبر أن قوام تذوّق النص التخييلي هو أن يعطّل القارئ ملكة الشك لديه. وفوق مدارج مصارعة الثيران، يبدو أن أمراً شبيهاً يحدث؛ فالجمهور يقوم بتعطيل الشعور بالوحشية لديه.
لكن عن أية وحشية نتحدّث؟ عن وحشية مُصارع الثيران وهو يجهز على حيوان جريح؟ أم وحشية آلاف يتفرّجون على صراع رجل شبه أعزل مع ثور هائج؟ لا ننسى هنا أن قائمة طويلة من التوريروس قد قضوا بنطحات قاتلة. وهنا تتحوّل الوحشية ليس ضد الحيوان وحده، بل ضد الإنسان كذلك.
لهذه الوحشية "تبريرات" ثقافية مبثوثة في أدبيات ما يُعرف بـ"توروماكيا"، فهذه اللعبة ترمز لتجديد الاحتفال بانتصار الإنسان على الطبيعة، ذلك الانتصار الحاسم الذي جعل من الحضارة ممكنة، بينما يعتبر آخرون الأمر تخفيفاً من فظاعات أعظَم؛ فمصارعة الثيران وريثة معارك المجالدين، حيث لا يخرج من الحلبة حيّاً سوى أحد المتصارعَين، سواء كانا بشريَّين، أو إنساناً يواجه حيواناً مفترساً بمخالب وأنياب حادة.
وهناك أيضاً قراءات تاريخية، فإسبانيا بلد تعوّد حفلات الدم، وفظاعةُ الإجهاز على ثور لا تُقارَن بما اقتُرف فوق الأرض نفسها من إبادات في عصر محاكم التفتيش أو خلال الحرب الأهلية.
حتى أصوات مناهضي الكوريدا تجد حججاً مضادّة. يقول بعضهم: أليس موت ثور في الحلبة أفضل من موته في المسلخ؟ وهنا يأخذ هذا التعذيب الذي يتعرّض له الحيوان حتى الموت مستويات رمزية، وأي ثقافة خلت من مثل ذلك؟ هل ننسى مثلاً أن نفس المطالبين بوقف رياضة مصارعة الثيران يطالبون أيضاً بإنهاء أعياد الأضحى الإسلامية؟
خلف هذه الجدالات، تُرى كيف تتجدّد الفرجة مع كل مباراة؟ هناك قائمون على ذلك، فمصارعو الثيران، وإضافة إلى كونهم في المخيال الجمعي يحيلون إلى قيم بطولية مثل الشجاعة والموهبة الذهنية والجسدية، هم أيضاً صنّاع فرجة وجماليات، بحركاتهم المدروسة بين الرشاقة والقوّة، وأزيائهم الموشّاة.
وإلى ذلك، يجسّد التوريرو قدرات على التحكّم، ليس فقط في الثور بل في مشاعر الجمهور، حيث يحوّل معركةً نتيجتها شبه محسومة إلى مجموعة محطّات نفسية تربط حالات متناقضة بين الخوف والاستمتاع والإثارة والضجر، والتحكّم في تسارع الأحداث.
أي رياضة أخرى في العالم توصل متابعيها إلى درجة الإثارة هذه؟ من هنا يمكن تفهّم شيء من تعلّق الإسبان باللعبة، فبعد تذوّق ما تقدّمه الكوريدا من إشباعات نفسية يعسر الاستمتاع بألعاب أخرى. وكيف يمكن مقارنة لعبة رهانها الحياة أو الموت، بألعاب تكتفي بتقديم الميداليات والكؤوس للفائزين.
تتبّع اللعبة اليوم سيناريو يتكرّر ولا يملّ منه المتابعون، وهو نتاج تطويرات عديدة امتدت لقرون، كانت تمضي في اتجاهين؛ إنتاج الفرجة من جهة وحماية الإنسان من جهة أخرى. كل شيء هنا مضبوط؛ ثمّة وقت محدود ومساحة معيّنة تتحرّك فيها الأحداث، فالثور في الكوريدا ينتهي إلى الموت دائماً، ولكن ليس بأي طريقة.
يبدأ كل شيء مع دخول الثور راكضاً داخل الحلبة. لحظة يصاحبها لحنٌ مخصوص يُعزف من المدارج، ضمن إحدى تنويعات موسيقى الباسودوبليه، وهو نمط تطوّر في إطار اللعبة أيضاً.
ثيران الكوريدا لها أسماؤها وهي جميعاً من سلالة نقيّة، تسمى Toro Bravo، يقذف بها للأرينا وهي في عز فتوّتها، بين أربع أو خمس سنوات عاشتها في رعاية خاصة، ولذلك متخصّصون في تربيتها، ومزارع لها جغرافيا مدروسة، وشركات راعية. الثور المصارع هو ثور لا يعمل طوال حياته، يعامَل مثل بطل مقدّس، وهو لا يذهب إلى المسلخ كي يُؤكَل لاحقاً.
لعبة الكوريدا عبارة عن مسرحية من ثلاثة فصول؛ يُسمّى كل واحد منها تيرثيرو. في كل فصل تظهر شخصيات بعينها تؤديّ دورها. ففي التيرثيرو الأول، ومع دخول الثور إلى الحلبة، يظهر ثلاثة توريروس يحمل كل واحد وشاحاً وردياً، وهؤلاء يُحرّكون الثور على كامل الحلبة.
إنها مناوشات صغيرة تهدف إلى اكتشاف خصائص الثور؛ قوته، انفعالاته، سرعته، عصبيته، وهي تفاصيل تدرسها الشخصية الرئيسية في اللعبة، الماتادور، الذي لا يظهر في الفصول الأولى. إنه الآن يضع خطّة عامّة ينبغي أن تُفضي إلى قتل الثور بالطريقة الأكثر فنية وإرضاءً للجمهور.
ينتهي الترثيرو الأول، بُجرح الثور أعلى نخاعه الشوكي مرّتين، حيث يجري اقتياده إلى الاصطدام بحصان يرتدي سترة حديدية يعلق فيها قرناه، ليغرس الفارس (يسمى بيكادور) رمحاً في جسد الثور المثبّت. هكذا ينتهي الفصل الأول من التراجيديا.
في التيرثيرو الثاني، تنتقل المناوشات من جنبات الحلبة إلى وسطها. تظهر هنا شخصيات البانديريوس، ودور هؤلاء غرس مجموعة من السهام الصغيرة أعلى رقبة الثور لإنهاكه أكثر، في الوقت نفسه الذي يزيد فيه هيجان الثور.
وقتها، يكون قد حان موعد التيرثيرو الأخير الذي يظهر فيه الماتادور. يدخل الحلبة مثل ملك الموت ماشياً بهدوء، حتى إذا وصل قلب الأرينا، يُحيّي الجمهور ويُلقي قبّعته، ليبدأ في مواجهة كائن يبلغ سبع أضعاف وزنه أو يزيد. وتعني "الماتادور" حرفياً القاتل. إنه الشخصية التي يقع على عاتقها تحديد لحظة موت الثور، بعد أن يمنح الجمهور لحظات - يُحدّد مدّتها أيضاً - من النشوة الفرجوية.
حين يبدأ الماتادور مهمّته، فإن المتفرّج يعيش مع الثور احتضاره، دقائق معدودة يمكن أن يطلّ فيها داخل البئر العميق للوحشية البشرية. ينتهي ذلك بحركة معروفة يقوم فيها الماتادور بغرس سيف وهو يركض في نقطة معيّنة بين رأس الثور وجسده، سرعان ما يسقط بعدها تحت ضجيج التحيات للماتادور وإلقاء الورود والمناديل على أدائه. كما يحدث أن يسخَر الجمهور بشكل جارح لو أخطأ هدفه من الثور، أو لم يُحسن التلاعب به وترويضه بالوشاح الأحمر.
تبدو قواعد الكوريدا، كما تُلعب اليوم، قد هيّأت كل الظروف كي ينتصر التوريرو على الثور. تشعر مع هذه الترتيبات أن الإنسان لم يعد يدخل معركة إلاّ وهو ضامن نتيجتها. لقد تحوّلت الكوريدا إلى لعبة جماعية لتؤكّد على أن الانتصار على "الوحش" يتطلّب تحالف الإنسان مع بني جنسه، وسلاحُه الحيلة والحكمة، قبل القوة التي لا تُجدي نفعاً مع ثور هائج. بقي على هذا الإنسان، ربما، وبعد انتصاره الحاسم على الوحش الذي كان يسكن الطبيعة، أن ينتصر على الوحش الذي يسكنُه هو.