مصر.. الأزهر ينتصر على البرلمان في معركة "دار الإفتاء"

22 اغسطس 2020
تشهد العلاقة بين السيسي والطيب توتراً حاداً منذ فترة (الأناضول)
+ الخط -

حقق الأزهر الشريف انتصاراً جديداً على النظام المصري، ممثلاً في مجلس النواب الخاضع لسلطة الرئيس عبد الفتاح السيسي، إثر إعلان قسم التشريع في مجلس الدولة رفضه مشروع قانون "تنظيم دار الإفتاء"، لمخالفته المادة السابعة من الدستور، فضلاً عن أحكام القانون 103 لعام 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر وهيئاته، وإعادته إلى البرلمان في ضوء الملاحظات الدستورية التي ارتآها القسم.

ويستهدف قانون "تنظيم دار الإفتاء" إنشاء كيان موازٍ للأزهر، وتهميشه، وتفريغ دوره لصالح كيان دار الإفتاء الخاضع لأمر السلطة التنفيذية، في إطار الصراع الدائر منذ سنوات بين السيسي وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، والذي انتقل إلى مرحلة جديدة تقوم على تحجيم أجنحة الأزهر بصورة غير مباشرة، من خلال إبراز أدوار وزارة الأوقاف ودار الإفتاء التابعة لوزارة العدل.

وامتنعت غالبية الصحف والمواقع المحلية عن نشر رد مجلس الدولة بشأن مشروع القانون، استجابة لتعليمات صادرة عن أجهزة أمنية، الذي شدد فيه على عدم دستورية المشروع لمخالفته المواد أرقام 2 و7 و8 و15 من الدستور، والمادة (32 مكرر) من القانون 103 لسنة 1961 وتعديلاته، التي تؤكد أن الأزهر هو "المرجع الأساسي" الذي يجب أن تُرد إليه كل فتاوى دار الإفتاء، بوصفها مظهراً تطبيقياً للعلوم الدينية، والشؤون الإسلامية.

ونصت المادة السابعة من الدستور المصري على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على شؤونه كافة، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية، والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة، ونشر علوم الدين، واللغة العربية في مصر والعالم. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء".

ورفض مجلس الدولة ما أقرّه مشروع القانون من سحب اختصاص الفتوى من الأزهر لصالح دار الإفتاء، نظراً لأنها أداة من أدوات نشر علوم الدين في مصر والعالم، وهذا هو شأن الأزهر الشريف، وإلا فإنها ستقوم على غير أساس مفتقدة مرجعها الأساسي، مشيراً إلى أنه ليس من المستساغ دستورياً وقانونياً أن يأتي المشرع العادي بأداة أدنى من الدستور، لينال من الاختصاص الذي حدده الدستور للأزهر، ويعهد به إلى جهة وهيئة أخرى.

وأضاف المجلس في رده، أن "اختصاص دار الإفتاء بإصدار الفتاوى وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، بما يتفق مع صحيح الدين، يجعلها وحدة من وحدات الأزهر، وتابعة له"، محذراً من أن مشروع القانون بصيغته الحالية "يجعل من دار الإفتاء طريقاً موازياً للأزهر، وتمارس اختصاصات أناطها المشرع الدستوري بالأزهر، وما يشمله من هيئات ممثلة في مجمع البحوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، وذلك بغير سند من الدستور".

تجميد مشروع القانون لأجل غير مسمى

في السياق نفسه، قال مصدر برلماني بارز، إن "رئيس مجلس النواب، علي عبد العال، قرر عدم إدراج مشروع القانون على جدول أعمال المجلس، وتجميده إلى أجل غير مسمى، ولا سيما أنّ من المقرر أن يفضّ البرلمان دور انعقاده السنوي هذا الأسبوع، وهو الأخير في الفصل التشريعي الحالي، وذلك تمهيداً لبدء إجراءات انتخابات مجلس النواب الجديد في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل".

وأضاف المصدر، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، أنه "بالرغم من أن رأي قسم التشريع في مجلس الدولة يُعَدّ استشارياً في مشروعات القوانين المحالة عليه، إلا أنه بمثابة (رصاصة الموت) لقانون دار الإفتاء، المقدم بإيعاز من الحكومة من طريق النائب أسامة العبد، وآخرين، باعتباره خالف العديد من مواد الدستور، بما ينذر بالطعن عليه أمام المحكمة الدستورية العليا في حال إصرار البرلمان على تمريره بصورته الحالية".

وسابقاً، قالت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، في خطاب أرسلته إلى رئيس البرلمان، إنّ "الأزهر بنص الدستور هو المرجع الأساس في كل الأمور المتعلقة بالشريعة، وفي صدارتها الإفتاء، وبالتالي إسنادها إلى هيئة تابعة لوزارة العدل ينطوي على مخالفة دستورية، ومساس باستقلال الأزهر، وجعل رسالته مشاعاً لجهات أخرى لا تتبعه"، مستطردة بأن "دار الإفتاء ستصير عندئذ كياناً عضوياً منبت الصلة عن الأزهر، وتمارس عملها بمعزل عنه".

ورفضت الهيئة ما ذهب إليه مشروع القانون من إنشاء مركز لإعداد المفتين برئاسة المفتي، بدعوى إعداد الكوادر العلمية التي تشتغل بالإفتاء، وإكسابهم المهارات اللازمة لذلك، وتأهيلهم داخل مصر وخارجها، وإصدار شهادة دبلوم يعادلها المجلس الأعلى للجامعات، وهو ما يعد افتئاتاً على جامعة الأزهر، التي تختص بإصدار الشهادات العلمية في العلوم الإسلامية.

وينهي مشروع القانون طريقة انتخاب المفتي من خلال اقتراع سري مباشر، يصوت فيه أعضاء الهيئة التي يترأسها شيخ الأزهر، ويؤسس لآلية جديدة توقف سلطتها عند اختيار ثلاثة مرشحين للمنصب من داخل الهيئة أو من خارجها، ورفع ترشيحاتها إلى رئيس الجمهورية الذي منحه التشريع السلطة المطلقة في الاختيار من بين المرشحين الثلاثة، فضلاً عن الحق في التمديد للمفتي بعد أن يبلغ السن القانونية.

كذلك اعتدى مشروع القانون على اختصاص هيئة كبار العلماء في الأزهر، واستقلالها، في ما يخص ترشيح الهيئة لمفتي الجمهورية، إذ إن التشريع سلب اختصاص الهيئة، من خلال منحه الفتوى الشرعية لأحد الوزراء في السلطة التنفيذية، وتخويله سلطة ندب من يحل محله عند خلو منصبه، بما يؤكد زوال جميع الضمانات التي كفلها الدستور والقانون لاستقلال الأزهر وهيئاته، وإسناد رسالته إلى أحد أعضاء الحكومة.

في موازاة ذلك، رفض شيخ الأزهر الإدلاء بصوته في انتخابات مجلس الشيوخ المنقضية على غير المعتاد، في رسالة تبدو "احتجاجية" في مواجهة السلطة الحاكمة، حيث اعتادت وسائل الإعلام نقل صورة إدلاء الطيب بصوته في اللجنة التابع لها في الانتخابات والاستفتاءات السابقة كافة، ضمن تغطيتها لمشاركة باقي المسؤولين بذريعة تشجيع المواطنين على المشاركة في التصويت.

وتشهد العلاقة بين السيسي والطيب توتراً حاداً منذ فترة ليست بقصيرة، بسبب العديد من مواقف شيخ الأزهر التي يتصدى فيها لرؤى رئاسية ذات علاقة بنصوص شرعية وفقهية، علاوة على إعلان رفضه إراقة الدماء في الوقائع التي أعقبت انقلاب الجيش على الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، واعتزاله لأسابيع في قريته بمحافظة الأقصر، احتجاجاً على ما حدث في مذبحة "رابعة العدوية".

وتصاعدت وتيرة الصدام مع رفض الطيب التوسع في إصدار فتاوى التكفير، استناداً إلى أن تكفير أي شخص يلزمه أن يخرج من الإيمان، وينكر الإيمان بالملائكة، وكتب الله من التوراة والإنجيل والقرآن، إلى جانب اعتراضه على حديث السيسي بشأن ضرورة وقوع الطلاق أمام المأذون دون غيره، معلناً رفضه هذا "التعديل المتنافي مع الشرع".

تصاعدت وتيرة الصدام مع السيسي إثر رفض الطيب التوسع في إصدار فتاوى التكفير

 

وقالت هيئة كبار العلماء، في بيان مذيل بتوقيع الطيب، إن "على مَن يتساهلون في فتاوى الطلاق أن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس، ويُسهم في حلّ مشكلاتهم على أرض الواقع؛ فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم"، وهي فقرة رأى مراقبون أنها موجهة إلى السيسي شخصياً.

وكان مصدر مقرب من الطيب قد أرجع قوة الرجل في صراعه مع السيسي، وخروجه من كل معاركه منتصراً، إلى أنه شخص "زاهد ومستغنٍ"، قائلاً في تصريح خاص: "شيخ الأزهر لا يرغب في أي مكاسب، ويرى في موقعه وشخصه الحالي مدافعاً عن الشرع، وصحيح الدين، وهو لا يتقاضى أي دخل من مشيخة الأزهر حتى يومنا هذا، ويكتفي فقط بالحصول على راتبه كأستاذ جامعي".

وكسب شيخ الأزهر شعبية كبيرة بين المصريين جراء تمسكه بمواقفه المناوئة للسيسي، ما اضطر الأخير إلى تحميل مؤسسة الأزهر مسؤولية انتشار العنف والتطرف في البلاد، بزعم أن المؤسسات الدينية للدولة مصابة بالجمود، ولا تتحرك بالشكل المطلوب في ملف تجديد الخطاب الديني، وهو ما ردّ عليه الطيب، بالقول إن "التطرف والعنف لهما أسباب مختلفة، ومنها القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية المؤدية إلى انتشاره".

دلالات