لم يشهد العربي، المدرك أهمية دور مصر عبر التاريخ، مثل هذه الخفة، وزناً ومكانة، كما الحال بعد 6 أعوام من الانقلاب العسكري، الذي يستمر بدفع بمصر، عربياً وإقليمياً، نحو هامش وتبعية ينسفان تاريخية تشابك عميق بين مصالحها والمصالح العربية. يبرر البعض هذا الانكفاء والتقهقر بـ"الظروف الصعبة للبلد". تفسير يبتعد عن جوهر الأسباب المنتجة لتلك الظروف، وأهمها نشوء جمهورية عسكرية موازية لمصر، تحكم بنتائج دموية الانقلاب، وباستهداف شبابها ونخبها ونقاباتها وأحزابها وحرية التعبير والصحافة، وبانتهاج سياسة رفع السبابة العسكرية بوجه شعبها عموماً، مع استحضار تجارب أنظمة دمرت بلدها، كنظام الأسد في دمشق، لقبول أسوأ الأوضاع عبر حفنة ارتزاق طفيلية، في السياسة والثقافة والأكاديمية والإعلام لتجميل قبح الصورة.
تولد أزمة شرعية الحكم، وتثبيت الطغمة العسكرية، ما نشهده من تقزّم لدور القاهرة، وشيوع أدوار دول أصغر وأقل شأناً، مدفوعة الأجر، لاستهداف الربيع العربي، ولو بالتدخّل بالسلاح ودعم ديكتاتوريين آخرين، وهو ما ينطبق بدرجات على الأنظمة المرعوبة من تحرر إرادة الشعوب. في كل ذلك تبقى الأعين شاخصة على ما يُرضي واشنطن وتل أبيب، وانتهازية أوروبية وروسية، يعبّر عنها أصدق تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غرباً، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين شرقاً.
تجربة أن يكون للرأي العام العربي وزن، وهو ما خشيه الأوروبيون لفترة بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر، دفعت بسفير الاحتلال في القاهرة إلى الهروب بعد احتجاجات الشارع على ضرب قطاع غزة. اليوم، يتجاوز نظام عبد الفتاح السيسي، في استصغار شأن مصر، دونية بعض المبررين والممجدين للاحتلال، وقصفه الأراضي العربية بعنوان "الدفاع عن النفس".
التذلل للصهيونية، والذي يقلبه إلى غير حقيقته إعلام غسل الأدمغة في مدينة الإنتاج الإعلامي، وصل إلى حد حصر دور الدولة العربية الكبرى في "وساطة"، وإيصال رسائل تهديد الاحتلال بالحرب على شعب غزة، مع إمعان في محاصرته بإغلاق معبر رفح للضغط عليه، واعتقال نشطاء حركة المقاطعة، والتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية لترجيح كفة طرف متساوق مع السيسي ومشاريع حلفائه الأميركيين والاحتلال. وليس بعيداً عن الانكفاء وتقزم الدور، تثار خيبات كثيرة عند بعض من راهن على دور السيسي في حماية "الأمن القومي العربي".
صحيح أن مصر تواجه أزمات كبيرة، لكن غياب دورها ليس ناجماً عن "مؤامرة"، ولا بسبب القضية الفلسطينية، كما يروّج رهط مجمّلي التذلل، ولا لأن سكان مصر تجاوزوا الـ100 مليون، بل لأننا أمام دولة محكومة بنظام يكسب المال المشروط بإخراج مصر تماماً من دورها وعمقها العربي.