30 ديسمبر 2021
مصر المبتلاة بالمساجد الحرام والحكام البلح (2)
في كتابه الممتع (الشعر الشعبي الساخر في عصور المماليك)، يسرد الدكتور محمد رجب النجار اعتماداً على المؤرخين الثقات عدداً من المناسبات التي أطلق فيها المصريون غضبهم على حكامهم في صورة أبيات ساخرة أو هجائية، مثل تلك الأبيات التي يروي إبن إياس أنها قيلت بعد أن أصيب السلطان الغوري بمرض في عينه، فأشاع الناس أنه قد عمى وغارت عينه بسبب ظلمه، وقال شاعرهم في ذلك:
سلطاننا الغوري غارت عينه
لما اشترى ظلم العباد بدينه
لا زال ينظر أخذ أرزاق الورى
حتى أصيب بآفة في عينه
حدث ذلك أيضاً مع الأمير جركس الخليلي الذي أدت سياساته المالية المتخبطة إلى "وقف حال الناس وحصل الغلاء وقل الجالب" فرددت "العامة" أبياتاً تسخر منه جاء فيها:
الخليل من عكسو
نقش اسمه على فلسو
وهو ما حدث مع الظاهر برقوق الذي كان قد وقع منه في أول سلطنته "أمور فاحشة في حق الرعية، فكان كما قيل: إذا حملت الأنفس بما لا تطيق، نطقت بما لا يليق في حق برقوق" كما يقول ابن إياس، بل إن العوام نهبت بيوت برقوق إبان تلك الفتنة، "ولم تكتف بالقول بما لا يليق"، لكن برقوق لم يكابر في استيعاب ما حدث، بل تعلم درسه جيداً، فتقرب من الشعب وتمسكن له حتى تمكن،"وقبض زمام الحكم في يديه"، بنص التعبير البليغ الذي يلخص مراحل ترويض الحاكم الماكر لشعبه طويل اللسان.
حين نستعرض مصائر السلاطين والأمراء الذين عجلت الألسنة الساخرة بنهايتهم، سنجد من أبرزهم الأتابكي قوصون نائب السلطان الملك الأشرف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، والذي تقلد السلطنة وهو دون السابعة من عمره، فاستغل قوصون وصايته عليه أسوأ استغلال، فلم يعتقه المصريون من ألسنتهم الساخرة حتى سقطت دولته التي وصفها شاعر شعبي مجهول بقوله:
ودولتك يا أمير قوصون
ما كانت إلا كذابة
وحين قبض عليه وسجن في الإسكندرية، فرح المصريون بمصيره، وقام الحلوانية بالتعبير عن هذه الفرحة بشكل كاريكاتيري يناسب ذلك الزمان، حين صنعوا تمثالا من الحلوى على شكل الأمير قوصون وهو مشنوق، "وأقبل أهل مصر جميعاً على شراء هذا التمثال لتحطيمه والتهامه وهم يضحكون ويتشفون بعد أن اتخذوا منه قبل التهامه مادة للتهكم والسخرية من نهاية الظالمين"، وقال الشاعر جمال الدين إبراهيم المعمار في وصف تلك الحالة أبياتاً جاء فيها:
شخص قوصون رأينا
في العلاليق مسمّر
تعجبنا منه لما
جاء في التسمير سكّر
وحين سيطرت على البلاد طائفة المغولية في عهد كتبغا الذي كان مسيطراً على أمور البلاد، لأن السلطان لم يتجاوز السابعة من عمره وقتها، وحين قام كتبغا المغولي الأصل بخلع السلطان واستكثر من الأويراتية المغولية حتى بلغ عددهم عشرة آلاف، فعاثوا فساداً في البلاد، وزادوا العباد رهقاً وذلاً، فانتشرت بين الناس في القاهرة هذه الأبيات التي كتبها الأديب الشعبي شمس الدين محمد بن دينار:
ربنا اكشف عنا العذاب فإنا
قد تلفنا في الدولة المُغليّة
جاءنا المُغل والغلا فانسلقنا
وانطبهنا في الدولة المَغليّة
واستغل الأمير لاجين هذا السخط الشعبي الذي تجمع ضد كتبغا فقام بانقلاب مضاد ضده، ووصل إلى عرش السلطنة، ليتنفس الناس الصعداء ولو إلى حين، قبل أن يبتلوا بالمزيد من سلاطين المماليك الذين قال الشاعر المجهول في وصف ما فعلوه بالبلاد والعباد:
إن قاتلوا قُتِلوا أو طاردوا طُرِدوا
أو حاربوا حُرِبوا أو غالبوا غُلِبوا
ولم تفوت سخرية المصريين فرصة استهداف مساعدي حكامهم الظلمة من القضاة الذين ارتبطت سيرتهم بأشنع الفضائح الأخلاقية التي قال فيها ابن دانيال الموصلي الشاعر الشعبي الكبير هذه الأبيات:
قل لقاضي الفسوق والأدبار
عضدُ البُلهِ عمدةُ الفُجّارِ
والذي قد غدا سفينة جهلٍ
وله من قرونه كالصواري
يشير الدكتور محمد رجب النجار إلى ظاهرة ارتباط الهجاء والشعر الساخر بارتفاع نسبة المعاناة، خصوصاً حين تسود البلاد مجاعات ساحقة وأوبئة ضارية، فتزداد وتيرة الفكاهة والسخرية، "إنكاراً للواقع وهروباً منه واستعلاء عليه"، ولذلك نجد أن المؤرخ ابن تغري بردي يروي خلال عرضه لوقائع وباء سنة 853 هجرية أن الناس "شوهدوا في شوارع القاهرة وهم يضحكون ويهزلون على حين كان الوباء يحصد منهم في اليوم الواحد عشرة آلاف نفس على الأقل"، وهو رقم يزيد عليه ابن إياس كثيراً بشكل دفع النجار للاعتقاد أنه يبالغ أكثر من اللازم، لكنه يلاحظ أن الناس برغم ارتفاع عدد ضحاياهم ظلوا يضحكون ويسخرون ويطلقون أسماء ساخرة على هذه الأوبئة، فأطلقوا مثلا على طاعون السيل سنة 695 هجرية اسم قارب شيحة الذي يأخذ المليح والمليحة، "برغم أنه مات في هذا الوباء نحو الثلث من الناس"، كما أطلق من تلاهم على طاعون قاتل اجتاح البلاد اسم "الفصل العايق يأخذ على الرايق".
وحين اجتاح البلاد وباء سنة 749 الذي استمر مدة خمسة عشر عاماً، انتشر بين المصريين الاستشهاد بأبيات ساخرة سوداء أطلقها الشاعر ابن المعمار قال فيها:
يا طالباً للموت قم واغتنم
هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخُص الموت على أهله
ومات من لا عمره ماتا
وقيل في السخرية المريرة من إحدى السنوات التي انتشرت فيها الأوبئة المميتة: "مات في تلك السنة كل شيء حتى السنة نفسها". وحين وقعت مجاعة سنة 892 التي مات فيها الكثير من الفقراء على الطرقات من شدة الجوع، وبيع فيها خبز الذرة الذي لم يكن يأكله المصريون من قبل، يروي ابن إياس كيف اخترع العوام رقصة وهم يغنون:
زويجي دي المسخرة
يطعمني خبز الذرة
وهي رقصة لا تختلف في تفاصيلها وإيقاعها عن تلك الرقصة التي اجتاحت شوارع القاهرة في ما أسماه الجبرتي "فتنة سنة 1137"، فبينما كان الأمراء يتفاوضون مع الباشا الذي قرر زيادة الضرائب، هاجت العامة واجتمعت عليه الأولاد الصغار تحت شباك بيته وصاروا يقولون:
باشا يا باشا يا عين القملة
من قال لك تعمل دي العملة
باشا يا باشا يا عين الصيرة
من قال تدبر دي التدبيرة
حتى ضاق بهم الباشا ذرعاً
وهو ما حدث أيضاً للبرديسي الذي حاول بعد جلاء الحملة الفرنسية زيادة الضرائب على التجار وارباب الحرف فثارت القاهرة وغنت له عن بكرة أبيها تلك العبارة الخالدة التي عاشت من بعده طويلاً: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي"، ومن يدري فقد تسمعها في مظاهرات قادمة، تستبدل اسم البرديسي باسم السيسي بوصفهما من أشهر من تسببوا في تفليس المصريين وقطع أرزاقهم.
في إطار تدليله على ما سبق أن قرره المؤرخون بأن "أهل مصر ما يطاقون من ألسنتهم إذا أطلقوها في حق الناس"، يشير الدكتور محمد رجب النجار إلى تفنن المصريين في إطلاق أسماء وكنايات هازئة على كثير ممن حكمهم من سلاطين وأمراء، كان من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الأمير سُمّ الموت، الأمير فأر السقوف، الأمير طللية، الأمير حمص أخضر، الدم الأسود، الفول المقشر، الأمير حداية، الأمير حلاوة، الأمير المجنون ـ وما أكثر من أطلق عليهم ذلك حسب تعبيره ـ والأمير القرد، والأمير حاصل ما تم، والصنجق هات لَبَن، والصنجق غليظ الرقبة، وصنجق ستّه ـ لأن صاحب اللقب حصل على الثراء من سيدته بعد أن تزوجها وهكذا ـ وكلها أسماء ارتبطت بالأمراء والسلاطين لدرجة أن معظم المؤرخين تناسوا الاسم الحقيقي واكتفوا باسم الشهرة الساخر الذي أطلقه العامة عليهم، تماماً كما اشتهر عبد الفتاح السيسي بلقب (بلحة) الذي صار دالاً عليه، وهو بالمناسبة لقب له جذوره التاريخية التي سنجدها في أبيات أوردها ابن إياس، قيلت في هجاء أحد السلاطين:
ورُبّ قحفٍ قد أتى
لنا به الدهر غلط
سألتُ عنه قيل لي
هذا من النخل سقط
ستجد بالطبع متحذلقين يتحدثون عن عدم فاعلية السخرية وعن كونها غير مجدية ولا تزعج الحكام ولا تقلقهم، وهو ما كان ربما يصح قوله قبل عهد عبد الفتاح السيسي الذي ربما يتميز عن سابقيه من الحكام، أنه يفوقهم في عدد الجرائم والمصائب، ويفوقهم أيضاً في حدة التنكيل بالمعارضين والساخرين، برغم حرصه على أن يظهر متقمصاً دور المهموم الذي لا ينام، أو دور المترفع الذي لا يبالي، ليزيد ذلك التنكيل الأمني ـ الذي تخطى الصحف والقنوات إلى حسابات تويتر وفيس بوك ـ من التصاق الألقاب الساخرة به، وجرياً على عادة المصريين في التعامل مع مجانين الحكم، ربما جاء اليوم الذي يسرى على (مسجد الفتاح العليم) الذي يفتخر السيسي بما أنفقه من ملايين المصريين عليه، ما سرى على ما سبقه من (المساجد الحرام) فيتم تغيير اسمه رسمياً إلى (جامع بلحة)، باعتباره أكثر لقب ساخر معقّم يتم تداوله للسيسي، أما باقي ألقاب السيسي التي جرى ذكرها بين أغلب المصريين الذين لا يفضلون الألفاظ المعقمة، فسيحتاج إطلاقها على المسجد إلى فتوى من شيخ أزهر لسانه طويل وخُلقه ضيّق ويحب أن يتقرب إلى الله بتسمية الأشياء بمسمياتها.
سلطاننا الغوري غارت عينه
لما اشترى ظلم العباد بدينه
لا زال ينظر أخذ أرزاق الورى
حتى أصيب بآفة في عينه
حدث ذلك أيضاً مع الأمير جركس الخليلي الذي أدت سياساته المالية المتخبطة إلى "وقف حال الناس وحصل الغلاء وقل الجالب" فرددت "العامة" أبياتاً تسخر منه جاء فيها:
الخليل من عكسو
نقش اسمه على فلسو
وهو ما حدث مع الظاهر برقوق الذي كان قد وقع منه في أول سلطنته "أمور فاحشة في حق الرعية، فكان كما قيل: إذا حملت الأنفس بما لا تطيق، نطقت بما لا يليق في حق برقوق" كما يقول ابن إياس، بل إن العوام نهبت بيوت برقوق إبان تلك الفتنة، "ولم تكتف بالقول بما لا يليق"، لكن برقوق لم يكابر في استيعاب ما حدث، بل تعلم درسه جيداً، فتقرب من الشعب وتمسكن له حتى تمكن،"وقبض زمام الحكم في يديه"، بنص التعبير البليغ الذي يلخص مراحل ترويض الحاكم الماكر لشعبه طويل اللسان.
حين نستعرض مصائر السلاطين والأمراء الذين عجلت الألسنة الساخرة بنهايتهم، سنجد من أبرزهم الأتابكي قوصون نائب السلطان الملك الأشرف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، والذي تقلد السلطنة وهو دون السابعة من عمره، فاستغل قوصون وصايته عليه أسوأ استغلال، فلم يعتقه المصريون من ألسنتهم الساخرة حتى سقطت دولته التي وصفها شاعر شعبي مجهول بقوله:
ودولتك يا أمير قوصون
ما كانت إلا كذابة
وحين قبض عليه وسجن في الإسكندرية، فرح المصريون بمصيره، وقام الحلوانية بالتعبير عن هذه الفرحة بشكل كاريكاتيري يناسب ذلك الزمان، حين صنعوا تمثالا من الحلوى على شكل الأمير قوصون وهو مشنوق، "وأقبل أهل مصر جميعاً على شراء هذا التمثال لتحطيمه والتهامه وهم يضحكون ويتشفون بعد أن اتخذوا منه قبل التهامه مادة للتهكم والسخرية من نهاية الظالمين"، وقال الشاعر جمال الدين إبراهيم المعمار في وصف تلك الحالة أبياتاً جاء فيها:
شخص قوصون رأينا
في العلاليق مسمّر
تعجبنا منه لما
جاء في التسمير سكّر
وحين سيطرت على البلاد طائفة المغولية في عهد كتبغا الذي كان مسيطراً على أمور البلاد، لأن السلطان لم يتجاوز السابعة من عمره وقتها، وحين قام كتبغا المغولي الأصل بخلع السلطان واستكثر من الأويراتية المغولية حتى بلغ عددهم عشرة آلاف، فعاثوا فساداً في البلاد، وزادوا العباد رهقاً وذلاً، فانتشرت بين الناس في القاهرة هذه الأبيات التي كتبها الأديب الشعبي شمس الدين محمد بن دينار:
ربنا اكشف عنا العذاب فإنا
قد تلفنا في الدولة المُغليّة
جاءنا المُغل والغلا فانسلقنا
وانطبهنا في الدولة المَغليّة
واستغل الأمير لاجين هذا السخط الشعبي الذي تجمع ضد كتبغا فقام بانقلاب مضاد ضده، ووصل إلى عرش السلطنة، ليتنفس الناس الصعداء ولو إلى حين، قبل أن يبتلوا بالمزيد من سلاطين المماليك الذين قال الشاعر المجهول في وصف ما فعلوه بالبلاد والعباد:
إن قاتلوا قُتِلوا أو طاردوا طُرِدوا
أو حاربوا حُرِبوا أو غالبوا غُلِبوا
ولم تفوت سخرية المصريين فرصة استهداف مساعدي حكامهم الظلمة من القضاة الذين ارتبطت سيرتهم بأشنع الفضائح الأخلاقية التي قال فيها ابن دانيال الموصلي الشاعر الشعبي الكبير هذه الأبيات:
قل لقاضي الفسوق والأدبار
عضدُ البُلهِ عمدةُ الفُجّارِ
والذي قد غدا سفينة جهلٍ
وله من قرونه كالصواري
يشير الدكتور محمد رجب النجار إلى ظاهرة ارتباط الهجاء والشعر الساخر بارتفاع نسبة المعاناة، خصوصاً حين تسود البلاد مجاعات ساحقة وأوبئة ضارية، فتزداد وتيرة الفكاهة والسخرية، "إنكاراً للواقع وهروباً منه واستعلاء عليه"، ولذلك نجد أن المؤرخ ابن تغري بردي يروي خلال عرضه لوقائع وباء سنة 853 هجرية أن الناس "شوهدوا في شوارع القاهرة وهم يضحكون ويهزلون على حين كان الوباء يحصد منهم في اليوم الواحد عشرة آلاف نفس على الأقل"، وهو رقم يزيد عليه ابن إياس كثيراً بشكل دفع النجار للاعتقاد أنه يبالغ أكثر من اللازم، لكنه يلاحظ أن الناس برغم ارتفاع عدد ضحاياهم ظلوا يضحكون ويسخرون ويطلقون أسماء ساخرة على هذه الأوبئة، فأطلقوا مثلا على طاعون السيل سنة 695 هجرية اسم قارب شيحة الذي يأخذ المليح والمليحة، "برغم أنه مات في هذا الوباء نحو الثلث من الناس"، كما أطلق من تلاهم على طاعون قاتل اجتاح البلاد اسم "الفصل العايق يأخذ على الرايق".
وحين اجتاح البلاد وباء سنة 749 الذي استمر مدة خمسة عشر عاماً، انتشر بين المصريين الاستشهاد بأبيات ساخرة سوداء أطلقها الشاعر ابن المعمار قال فيها:
يا طالباً للموت قم واغتنم
هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخُص الموت على أهله
ومات من لا عمره ماتا
وقيل في السخرية المريرة من إحدى السنوات التي انتشرت فيها الأوبئة المميتة: "مات في تلك السنة كل شيء حتى السنة نفسها". وحين وقعت مجاعة سنة 892 التي مات فيها الكثير من الفقراء على الطرقات من شدة الجوع، وبيع فيها خبز الذرة الذي لم يكن يأكله المصريون من قبل، يروي ابن إياس كيف اخترع العوام رقصة وهم يغنون:
زويجي دي المسخرة
يطعمني خبز الذرة
وهي رقصة لا تختلف في تفاصيلها وإيقاعها عن تلك الرقصة التي اجتاحت شوارع القاهرة في ما أسماه الجبرتي "فتنة سنة 1137"، فبينما كان الأمراء يتفاوضون مع الباشا الذي قرر زيادة الضرائب، هاجت العامة واجتمعت عليه الأولاد الصغار تحت شباك بيته وصاروا يقولون:
باشا يا باشا يا عين القملة
من قال لك تعمل دي العملة
باشا يا باشا يا عين الصيرة
من قال تدبر دي التدبيرة
حتى ضاق بهم الباشا ذرعاً
وهو ما حدث أيضاً للبرديسي الذي حاول بعد جلاء الحملة الفرنسية زيادة الضرائب على التجار وارباب الحرف فثارت القاهرة وغنت له عن بكرة أبيها تلك العبارة الخالدة التي عاشت من بعده طويلاً: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي"، ومن يدري فقد تسمعها في مظاهرات قادمة، تستبدل اسم البرديسي باسم السيسي بوصفهما من أشهر من تسببوا في تفليس المصريين وقطع أرزاقهم.
في إطار تدليله على ما سبق أن قرره المؤرخون بأن "أهل مصر ما يطاقون من ألسنتهم إذا أطلقوها في حق الناس"، يشير الدكتور محمد رجب النجار إلى تفنن المصريين في إطلاق أسماء وكنايات هازئة على كثير ممن حكمهم من سلاطين وأمراء، كان من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الأمير سُمّ الموت، الأمير فأر السقوف، الأمير طللية، الأمير حمص أخضر، الدم الأسود، الفول المقشر، الأمير حداية، الأمير حلاوة، الأمير المجنون ـ وما أكثر من أطلق عليهم ذلك حسب تعبيره ـ والأمير القرد، والأمير حاصل ما تم، والصنجق هات لَبَن، والصنجق غليظ الرقبة، وصنجق ستّه ـ لأن صاحب اللقب حصل على الثراء من سيدته بعد أن تزوجها وهكذا ـ وكلها أسماء ارتبطت بالأمراء والسلاطين لدرجة أن معظم المؤرخين تناسوا الاسم الحقيقي واكتفوا باسم الشهرة الساخر الذي أطلقه العامة عليهم، تماماً كما اشتهر عبد الفتاح السيسي بلقب (بلحة) الذي صار دالاً عليه، وهو بالمناسبة لقب له جذوره التاريخية التي سنجدها في أبيات أوردها ابن إياس، قيلت في هجاء أحد السلاطين:
ورُبّ قحفٍ قد أتى
لنا به الدهر غلط
سألتُ عنه قيل لي
هذا من النخل سقط
ستجد بالطبع متحذلقين يتحدثون عن عدم فاعلية السخرية وعن كونها غير مجدية ولا تزعج الحكام ولا تقلقهم، وهو ما كان ربما يصح قوله قبل عهد عبد الفتاح السيسي الذي ربما يتميز عن سابقيه من الحكام، أنه يفوقهم في عدد الجرائم والمصائب، ويفوقهم أيضاً في حدة التنكيل بالمعارضين والساخرين، برغم حرصه على أن يظهر متقمصاً دور المهموم الذي لا ينام، أو دور المترفع الذي لا يبالي، ليزيد ذلك التنكيل الأمني ـ الذي تخطى الصحف والقنوات إلى حسابات تويتر وفيس بوك ـ من التصاق الألقاب الساخرة به، وجرياً على عادة المصريين في التعامل مع مجانين الحكم، ربما جاء اليوم الذي يسرى على (مسجد الفتاح العليم) الذي يفتخر السيسي بما أنفقه من ملايين المصريين عليه، ما سرى على ما سبقه من (المساجد الحرام) فيتم تغيير اسمه رسمياً إلى (جامع بلحة)، باعتباره أكثر لقب ساخر معقّم يتم تداوله للسيسي، أما باقي ألقاب السيسي التي جرى ذكرها بين أغلب المصريين الذين لا يفضلون الألفاظ المعقمة، فسيحتاج إطلاقها على المسجد إلى فتوى من شيخ أزهر لسانه طويل وخُلقه ضيّق ويحب أن يتقرب إلى الله بتسمية الأشياء بمسمياتها.