21 سبتمبر 2024
مصر.. خطاب زائف في عيد العمال
بدأت الدولة المصرية الاحتفال بعيد العمال رسمياً عام 1964، وتزامنت فكرة الاحتفال مع التوجهات الإصلاحية لسلطة يوليو 1952، والتي نفذت إجراءاتٍ مثلت انحيازاً اجتماعياً وطبقياً للعمال. لذا، لم تكن فكرة الاحتفال شكليةً، كما هي اليوم في ظل حكم سلطة يونيو التي يمثلها الرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد تناغم احتفال الرئيس جمال عبد الناصر بالعمال مع المضمون الاجتماعي لسلطته، وساهم خطابه الذي يحتفي بالعمال في تحقيق قدر كبير من التأييد الذي ما زلنا نلحظ بعضاً من آثاره في الخطاب السياسي الشعبي.
لم يكن خطاب عبد الناصر وحسب هو الرسالة التي يوجهها إلى العمال، بل حضوره وسط الميادين، وفي مواقع الإنتاج، يحمل معاني الحضور والتقدير، فالرئيس يذهب إلى العمال للاحتفال بهم، لا يأتون إليه كما صار يحدث فيما بعد. ذهب عبد الناصر إلى مصانع شبرا الخيمة والمحلة وحلوان ليحتفي بالعمال. وركّزت خطاباته على مهاجمة الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال، مع إشارات متعدّدة إلى دور الطبقة العاملة في مقاومة الاستعمار، بعكس خطابات حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي عن الأزمة الاقتصادية والإرهاب والأفكار التخريبية مبرراتٍ وحاجز صد لمطالب العمال في تحسين أحوالهم. وعلى الرغم من انحياز الخطاب الناصري للعمال، إلا أن ذلك لا ينفي الأخطاء التاريخية لثورة يوليو تجاه الطبقة العاملة، في ما يخص نقطتين: الأولى، استخدام العنف في مواجهة بعض التحركات العمالية في بداية حكم الضباط الأحرار، وخصوصاً واقعة إعدام الخميسى والبقري بتهمة التحريض على الإضراب في مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج. والثانية سعي سلطة يوليو إلى احتواء حركة الطبقة العاملة وتأميمها لصالحها. لذا أنشئ الاتحاد العام للعمال تنظيماً نقابياً رسمياً يساند الدولة. كما حظرت سلطة يوليو 1952 التعدّد النقابي، ولم يُكسر هذا الحظر إلا بعد ثورة يناير، حين تأسست عدة نقابات عمالية مستقلة.
حاولت سلطة يونيو استغلال الصورة الذهنية الإيجابية التي ارتسمت في وجدان العمال حول عبد الناصر، رفعت صورة السيسي بجوار صور عبد الناصر، وكأن النظام الجديد يعتنق
الأفكار الناصرية، وأنه "سيحنو على الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه"، وروج الناصريون في أوساط الطبقة العاملة هذه الأوهام. كما استقطبت السلطة يساريين لرسم هذه الصورة وتثبيتها إعلامياً، ولترويج السلطة بوصفها ستعبر عن الطبقات الشعبية والعمال. لكن سرعان ما تكشّف الوهم، حين بدأت السلطة تنفيذ سياساتٍ مضادّة لمصالح الطبقة العاملة، وتجعل احتفال النظام بالعمال لا يخرج عن إطاره الشكلي، ويفقد معناه.
وقد جاء احتفال العام الجاري في مصر بعيد العمال باهتاً إلى أبعد درجة، مثل مشهد سينمائي غير محبوك، ينفذه ممثلون محدودو الموهبة، وتنقصه صنعة نظام مبارك وشعبوية نظام عبد الناصر ومراوغة نظام أنور السادات. لا يمت احتفالهم إلى العمال بصلة، ولم يقترب من مطالبهم أو معاناتهم. كان حفل السلطة بالعمال في فندق الماسة للقوات المسلحة شبيهاً باحتفال العام الذي سبقه في أكاديمية الشرطة، من حيث طبيعة الخطاب والمشاركين فيه، وحتى المكان الذى يحمل دلالاتٍ واضحة بشأن المكون الأمني للسلطة. لذا لم يكن مستغرباً أن توجه التحيات والسلامات إلى رجال الأعمال، بدلا من أن يتركز الحديث عن العمال ومشكلاتهم، كما اتسق شكل القاعة وتقسيمها مع أفكار السلطة وطبيعتها الطبقية. قسمت قاعة الفندق إلى جزأين، كالتقسيم الطبقي لهيكل النظام. الجزء الأول صفان من "الكراسي المذهبة" الفاخرة، وخصّصت لمجلس الوزراء وكبار المسؤولين، وفي باقي الصفوف كراسي عادية مكسوّة بالقماش الأبيض، خصصت لقيادات نقابية وعمالية، اختيرت بعناية لحضور الحفل.
من المفترض، ولو شكلياً وحسب ما يفرضه المنطق، أن يقدم رئيس الاتحاد العام لعمال مصر لائحة مطالب في كلمته، لكن هذا لم يحدث، وخصص كلمته لتوجيه التحيات لمكونات السلطة، وتملق الرئيس، وكأن المناسبة مؤتمر انتخابي.
كما أهملت قضايا العمال في خطاب وزير القوى العاملة، محمد سعفان، والذي لم يجد ما
يعرضه من إنجازاتٍ سوى نشاط وزارته على صفحات التواصل الاجتماعي من حملات توعيةٍ أو ربط وزارته بوزارة القوى العاملة في الأردن إلكترونياً، كما لم يجد أرقاماً تذكر بشأن الخدمات التي قدمت للعمال، فاستعرض أنشطة صندوق الطوارئ منذ إنشائه عام 2002، وهو الصندوق المخصص لمن فقد عمله نتاج تصفية الشركات أو إغلاقها، أو الفصل التعسفي، بل وجه التحية لرجال الأعمال، وهم النقيض للمحتفل بهم، وهم الذين يُراكمون في ظل سلطة الفساد ثرواتهم، ويتهرّب كبارهم من دفع الضرائب، ويتمتعون بامتيازات ضخمة.
أما السيسي فلم يفاجئ العمال، كما نشرت الصحف، ولم يرد في خطابه شيء عن تناسب الأجور مع الأسعار التي تضاعفت خلال حكمه. واكتفى بتقديم 100 مليون جنيه لصندوق الطوارئ من تبرعات المصريين في صندوق "تحيا مصر"، وبشر العمال بقانون للتنظيم النقابي يعدّه البرلمان، وهو القانون الذى سيقنن التضييق على التعدّدية النقابية التي تمارسها الدولة تجاه النقابات المستقلة حاليا. وإذا أخذنا في الاعتبار التضييق الذي يُمارس على حركة العمال، والمحاكمات التي تعرّض لها عمال بعض المصانع في أثناء استخدامهم حق الإضراب والتظاهر والاعتصام، فإننا سوف نعرف أن غاية هذا القانون هو تقييد التعدّدية والحرية النقابية أكثر من أن يقرّها كما جاء في دستور 2014، وأنه سيأتي لإلغاء الحقوق التي فرضها العمال في التنظيم النقابي المستقل بعد ثورة يناير.
ومن مفارقات الاحتفال أنه تزامن مع وصول مبعوثي صندوق النقد الدولي لمراجعة مدى تنفيذ الاشتراطات التي وضعها لإقراض مصر، ومن أبرزها تخفيض موازنة الأجور، وتقليل العمالة، وتقليص الصرف على الخدمات، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وتحرير سعر الصرف، تلك الاشتراطات التي عمقت أزمة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية عموماً.
لم يكن خطاب عبد الناصر وحسب هو الرسالة التي يوجهها إلى العمال، بل حضوره وسط الميادين، وفي مواقع الإنتاج، يحمل معاني الحضور والتقدير، فالرئيس يذهب إلى العمال للاحتفال بهم، لا يأتون إليه كما صار يحدث فيما بعد. ذهب عبد الناصر إلى مصانع شبرا الخيمة والمحلة وحلوان ليحتفي بالعمال. وركّزت خطاباته على مهاجمة الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال، مع إشارات متعدّدة إلى دور الطبقة العاملة في مقاومة الاستعمار، بعكس خطابات حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي عن الأزمة الاقتصادية والإرهاب والأفكار التخريبية مبرراتٍ وحاجز صد لمطالب العمال في تحسين أحوالهم. وعلى الرغم من انحياز الخطاب الناصري للعمال، إلا أن ذلك لا ينفي الأخطاء التاريخية لثورة يوليو تجاه الطبقة العاملة، في ما يخص نقطتين: الأولى، استخدام العنف في مواجهة بعض التحركات العمالية في بداية حكم الضباط الأحرار، وخصوصاً واقعة إعدام الخميسى والبقري بتهمة التحريض على الإضراب في مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج. والثانية سعي سلطة يوليو إلى احتواء حركة الطبقة العاملة وتأميمها لصالحها. لذا أنشئ الاتحاد العام للعمال تنظيماً نقابياً رسمياً يساند الدولة. كما حظرت سلطة يوليو 1952 التعدّد النقابي، ولم يُكسر هذا الحظر إلا بعد ثورة يناير، حين تأسست عدة نقابات عمالية مستقلة.
حاولت سلطة يونيو استغلال الصورة الذهنية الإيجابية التي ارتسمت في وجدان العمال حول عبد الناصر، رفعت صورة السيسي بجوار صور عبد الناصر، وكأن النظام الجديد يعتنق
وقد جاء احتفال العام الجاري في مصر بعيد العمال باهتاً إلى أبعد درجة، مثل مشهد سينمائي غير محبوك، ينفذه ممثلون محدودو الموهبة، وتنقصه صنعة نظام مبارك وشعبوية نظام عبد الناصر ومراوغة نظام أنور السادات. لا يمت احتفالهم إلى العمال بصلة، ولم يقترب من مطالبهم أو معاناتهم. كان حفل السلطة بالعمال في فندق الماسة للقوات المسلحة شبيهاً باحتفال العام الذي سبقه في أكاديمية الشرطة، من حيث طبيعة الخطاب والمشاركين فيه، وحتى المكان الذى يحمل دلالاتٍ واضحة بشأن المكون الأمني للسلطة. لذا لم يكن مستغرباً أن توجه التحيات والسلامات إلى رجال الأعمال، بدلا من أن يتركز الحديث عن العمال ومشكلاتهم، كما اتسق شكل القاعة وتقسيمها مع أفكار السلطة وطبيعتها الطبقية. قسمت قاعة الفندق إلى جزأين، كالتقسيم الطبقي لهيكل النظام. الجزء الأول صفان من "الكراسي المذهبة" الفاخرة، وخصّصت لمجلس الوزراء وكبار المسؤولين، وفي باقي الصفوف كراسي عادية مكسوّة بالقماش الأبيض، خصصت لقيادات نقابية وعمالية، اختيرت بعناية لحضور الحفل.
من المفترض، ولو شكلياً وحسب ما يفرضه المنطق، أن يقدم رئيس الاتحاد العام لعمال مصر لائحة مطالب في كلمته، لكن هذا لم يحدث، وخصص كلمته لتوجيه التحيات لمكونات السلطة، وتملق الرئيس، وكأن المناسبة مؤتمر انتخابي.
كما أهملت قضايا العمال في خطاب وزير القوى العاملة، محمد سعفان، والذي لم يجد ما
أما السيسي فلم يفاجئ العمال، كما نشرت الصحف، ولم يرد في خطابه شيء عن تناسب الأجور مع الأسعار التي تضاعفت خلال حكمه. واكتفى بتقديم 100 مليون جنيه لصندوق الطوارئ من تبرعات المصريين في صندوق "تحيا مصر"، وبشر العمال بقانون للتنظيم النقابي يعدّه البرلمان، وهو القانون الذى سيقنن التضييق على التعدّدية النقابية التي تمارسها الدولة تجاه النقابات المستقلة حاليا. وإذا أخذنا في الاعتبار التضييق الذي يُمارس على حركة العمال، والمحاكمات التي تعرّض لها عمال بعض المصانع في أثناء استخدامهم حق الإضراب والتظاهر والاعتصام، فإننا سوف نعرف أن غاية هذا القانون هو تقييد التعدّدية والحرية النقابية أكثر من أن يقرّها كما جاء في دستور 2014، وأنه سيأتي لإلغاء الحقوق التي فرضها العمال في التنظيم النقابي المستقل بعد ثورة يناير.
ومن مفارقات الاحتفال أنه تزامن مع وصول مبعوثي صندوق النقد الدولي لمراجعة مدى تنفيذ الاشتراطات التي وضعها لإقراض مصر، ومن أبرزها تخفيض موازنة الأجور، وتقليل العمالة، وتقليص الصرف على الخدمات، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وتحرير سعر الصرف، تلك الاشتراطات التي عمقت أزمة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية عموماً.