تأتي واقعة تجريد سيدة مسنّة من ملابسها تماماً في قرية أبو قرقاص بمحافظة المنيا بصعيد مصر، في سياق انتقامي من ابنها، لتمثل تجلياً لما حدث في التركيبة النفسية للشخصية المصرية في السنوات الأخيرة.
أعوام من الدم والعنف والتحريض على مزيد من القتل والسفك، كرّست العنف في نفوس المصريين، وأدت لهذا المشهد.
بدأت الأحداث في قرية الكرم، والتي تبعد مسافة أربعة كيلومترات عن مدينة الفكرية، مركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، بعد شائعة علاقة بين مسيحي ومسلمة. وقد تعرض المسيحي، ويدعى أشرف عبده عطية، للتهديد، ما دفعه لترك القرية. بينما قام والده ووالدته يوم الخميس 19 مايو/أيار بتحرير محضر بمركز شرطة أبو قرقاص، يبلغان فيه بتلقيهما تهديدات، وبأنه من المتوقع أن تنفذ تلك التهديدات في اليوم التالي.
وفي اليوم التالي للبلاغ، توجهت مجموعة تحمل أسلحة متنوعة، واعتدت على سبعة من منازل الأقباط وأقدمت على إضرام النار في بعضها، قبل أن يجرّد عناصرها المسلّحون والدة الشاب من ملابسها تماماً، وقاموا بسحلها في الشارع، بحسب البيان الصادر عن مطرانية المنيا.
في المقابل، هناك روايات تشكك في الواقعة برمتها، وتنفي حدوثها بالأساس، وتعتبر أنها مجرد وسيلة إلهاء جديدة تضاف إلى وسائل سابقة، للتغطية على عدة مشاكل، بينها نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، وقمع الحريات والتوسع في اعتقال النشطاء. وتتزامن مع إعلان الحكومة المصرية الانتهاء من قانون الإدارة المحلية الجديد المثير للجدل في الشارع المصري.
من جهته، حمّل الكاتب الصحافي المصري، مراسل موقع "باز فيد" ماجد عاطف، المسيحيين في مصر مسؤولية مضاعفة عن مشهد اليوم. وقال في تدوينة له عبر حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "بشكل شخصي، أعرف مسيحيين كانوا بيقولوا نصاً: (الرئيس المصري عبدالفتاح) السيسي ربنا بعته لينا. وعندما كنت أكلمهم عن القانون كان ردهم: مش وقته".
يأتي هذا فيما يستمر مسؤولون ومواطنون في ترديد عبارات من شأنها "تبسيط وتهوين" ما حدث بالمنيا أمس. تماماً كما فعل محافظ المنيا في أول تصريح له عقب الحادث "قضية السيدة المسنة التي جردت من ملابسها في المنيا موضوع بسيط وبلاش نكبّره"، على حد قوله.
على مواقع التواصل الاجتماعي، تداول العشرات تصريحات محافظ المنيا، وهو لواء سابق في جهاز أمن الدولة المصري لمدة 26 عاماً، بتعليقات امتزجت فيها الحسرة بالتهكّم، كـ"الأمر تحت السيطرة يا فندم، ولكن وسائل الإعلام تبالغ في الأمر"، و"إن لم تستح فافعل ما شئت"، و"الموضوع بسيط يا جماعة بلاش تهويل"، و"لا مش بسيطة يا سيادة اللواء زي ما بيع الأرض مش بسيط ولا حبس الشباب بسيط ولا التعذيب والقتل بسيط ولا تكميم الأفواه بسيط".
في المقابل، جاء ردّ الحقوقي المصري ومدير المبادرة المصرية للحقوق والحريات الشخصية، وهي منظمة مجتمع مدني مصرية، خالد منصور، على محافظ المنيا، بالقول "هذا اللواء المحافظ يختصر في فقرتين مشكلة مصر التي هي في من يحكمها ونخبها المتواطئة، والتي قد تبدو من فرط طمعها وأفعالها الجامحة وتبريراتها الخرافية جاهلة، ولكنها ليست كذلك، بل فقط متخمة بشراهة السلطة والمصالح ومصابة بقصر نظر مريع. لن تقتنع نخب كهذه في ما يبدو عن طريق حوار عقلاني وبيانات، ويبدو بكل أسف وأسى أننا سنرى أكثر من تعرية مسيحية عجوز وزفّها في شوارع قرية في المنيا، وقتل شيعة وجر جثثهم في شوارع قرية بالجيزة، وقتل مئات الإخوان المعتصمين في رابعة في ساعات في شوارع القاهرة، وعمليات داعش الدموية في سيناء (والرد الانتقامي عليها)، يبدو للأسف أننا قد نرى أكثر من هذا كي نباشر التغيير. لا يقفزَنَّ أحدكم فوق التاريخ فتنكسر رقبته ولكن لا يعتقدن أحدكم أن معظم التغيّرات الكبرى في التاريخ لم تبدأ في لحظة واحدة ثم أحدثت قطيعة مع ماضٍ يتهاوى".
على المستوى الرسمي، فإن الأمن يواصل الظهور في الوسائل الإعلامية لنفي أية محاضر تم التقدم بها، بل وصل النفي بالمسؤولين بوصفهم الواقعة بـ"الشائعة السخيفة"، وذلك رغم تأكيد مطرانية المنيا للواقعة.
ولم يقف التعامل الرسمي مع الواقعة عند هذا الحد، بل وصل لحدّ إلقاء قوات الأمن المصرية القبض على مراسلي موقع "الأقباط متحدون"، شكري وعزت إبراهيم، المعني بالشأن القبطي، وهما أول من نشر أولى تصريحات سيدة المنيا.
والبارز حتى الآن، أن تلك الحادثة كغيرها من الحوادث ستظل محكومة بالعُرف السائد في صعيد مصر، وقد يتم احتواء الأمر بجلسة ودية بين شيخ وقسيس في حضور قيادات أمنية.
فيما أعلن الأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا وأبو قرقاص، أنه تقابل، أمس، مع السيدة المسنة، التي تعرضت لـ"إهانة بالغة". وبحسب بيان مكاريوس، فإن "السيدة المسنة قالت وهي تغالب دموعها، إن الغوغاء قاموا بإخراجها من منزلها ثم تجريدها من ملابسها، وجرّها في الشارع، والاعتداء عليها بالضرب الوحشي، ثم طرحها أرضاً، لتحبو وتختبئ تحت عربة صغيرة، حيت ألقت سيدة فاضلة ثياباً فوقها، فارتدتها بسرعة، وتحاملت على نفسها لتهرب من الغوغاء وتستقل وسيلة مواصلات إلى المدينة. وقالت السيدة سعاد إنها حاولت التكتم على ما حدث شأنها في ذلك شأن اللاتي يتعرضن للاغتصاب أو التحرش، غير أنها لم تحتمل أن تغالب الشعور بالقهر والذل أكثر من ثلاثة أيام، لتنتفض في شجاعة لتذهب إلى المركز وتدلي بأقوالها في محضر بعد امتناع المسؤولين هناك عن تلبية طلبها لساعات".
وتابع البيان "كانت آثار الضرب المبرح لا تزال ظاهرة على جسدها. وتقول السيدة سعاد إنها لم تر السيدة التي سترتها، كما أنها لا تعرف كيف نجت من الموت، كما نفت أن تكون قد تعرضت للاغتصاب، وأضافت أنها لم تخطئ في شيء، ولذلك فقد تحلّت بالشجاعة وسجلت كل ما تعرضت له. وفي سياق متصل، أفادت بأنها وزوجها قد ذهبا للمركز المذكور في الرابعة عصرا لفتح محضر بعد اكتشاف سرقة بيتهما، غير أن المسؤول هناك قام بتهديدهما وطردهما، وبعد ذلك بأربع ساعات حدثت الكارثة"، على حدّ قول مكاريوس.
وخلصت السيدة إلى القول إنها "تحتمل ذلك بشكر، وأنها تغفر لمن أساء إليها، وإن كانت تثق بأن الله سينتقم لها في الوقت المناسب".