كانت تغضبني هذه العبارة عندما كان يرددها بعض المحللين السياسيين وكثير من المحسوبين على نظام المخلوع حسني مبارك بعد أن أشعل محمد بو عزيزي النار في نفسه.
كانت تغضبني رغم أنه لم يكن واضحا بعد أنها ستتحول إلى "ثورة الياسمين"، وأنها ستؤدي إلى فرار الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي، وأنها ستشعل الأمل في نفوس ملايين من العرب الذين يتوقون إلى الكرامة والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
كنت أشعر بحزن وحسرة وألم وأنا أتابع محاولات بعض المصريين تقليد بو عزيزي وإشعال النار في أنفسهم وسط القاهرة، لم أكن أتخيل أن بو عزيزي أشعل شرارة التحرر في تونس ومصر وعدد من الدول العربية، من أنظمة هي أقرب للاستعمار الذي كافح العرب طويلا للتحرر منه.
لم أصدق عندما سمعت نبأ هروب بن علي من تونس، ولم أتخيل أن هذا سيكون مصير مبارك بعد أقل من شهر.
تسارعت الأحداث وكبر الأمل في أنه يمكن التخلص من الطغاة العرب قبل أن يموتوا ويورثوا الجمهوريات لأبنائهم، ورغم ذلك لم أتوقع أن تؤدي مظاهرات يناير 2011، التي كانت بالأساس ضد الشرطة يوم عيدها، إلى تنحية مبارك بعد 18 يوما.
لم أصدق عيوني وأنا أرى الآلاف يتدفقون على ميدان التحرير ذلك اليوم، ويهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام"، ووصول محمد البرادعي بعد يومين، ولقد عايشت "جمعة الغضب" في جامع الاستقامة حيث هاجمت الشرطة المصلين بالماء ثم الغاز وحاولنا الاحتماء داخل المسجد مع البرادعي وشقيقه والصحافي/الإعلامي إبراهيم عيسى وآخرين، وكان البرادعي مصدوما من عنف الشرطة ويرتعد من البرد بعد أن تبللت ملابسنا بالماء واختنقنا بالغاز.
ولقد عشت وعايشت 18 يوما مما يشبه "المدينة الفاضلة" في التحرير، ولن أنسى الفرحة العارمة بعد إعلان عمر سليمان بأسى أن مبارك قرر "تخليه" عن السلطة. وعشت غصة اكتشاف أن مبارك تخلى عن السلطة تحت ضغط من الجيش أو تمت تنحيته جانبا حتى يعيش النظام، وأن الشعب لم يسقط النظام كما هتف الملايين فرحا ووهما في ميدان التحرير وميادين مصر يوم 11 فبراير/شباط 2011، وكما طالعنا مانشيت صحيفة "الأهرام" في اليوم التالي.
عشنا حالة الفخر بـ"ارفع رأسك فوق أنت مصري"، وظننا أن مصر هي تونس، وأنها ستقود حالة التحرر من أنظمة القمع العربية مثلما قادت العرب إلى التحرر من الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
ولاحقا، وقفنا في طوابير الانتخابات بالساعات، وصوّرنا أصابعنا بالحبر الفسفوري لأول مرة في حياة الكثيرين منا، ودبّت السياسة والأمل في عروق الوطن، رغم تخبط التجربة الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد والديكتاتورية، وهو ما قضى عليه، ولو مرحليا، انقلاب الثالث من يوليو 2013.
بعد أربع سنوات مما عرف بالربيع العربي أجدني مضطرة للدعاء: "ربنا يستر على تونس ويكمل تجربتها الديمقراطية الوليدة"، وأجدني مضطرة للاعتراف أن "مصر فعلا ليست تونس. على الأقل ليس بعد، لأسباب عديدة أهمها أن الجيش في تونس وقف مع الشعب جديا، بعيدا عن شعار الشعب والجيش يد واحدة".
مصر ليست تونس. هذا إقرار حقيقة وواقع وليس دعوة لليأس، مصر ليست تونس لأن مستوى التعليم والثقافة والمجتمع المدني والليبراليين والإسلاميين في تونس، أفضل مما هو عليه في مصر.
الربيع العربي تعثر، وربما انتهى مؤقتا، وربما لم يبدأ بعد في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى، لكن الأهم أن مصر مثل تونس، ومثل كل البشر، تستحق الديمقراطية والعيش والكرامة الإنسانية.
والأهم أنه "لا يضيع حق وراءه مطالب"، ووراءه أحرار لا يعترفون بالانقلاب ولا السلطة التي ترتبت عليه، وما زالوا يتظاهرون بعد أكثر من 17 شهرا من الانقلاب الدموي الذي يقتل ويسحق ويعتقل معارضيه.
طريق الحرية والديمقراطية طويل مثلما كان طريق التحرر من الاستعمار طويلا، وستنتصر إرادة الشعوب الحرة، وإن شاء الله تحتفل مصر وتونس وبقية الأحرار في العالم العربي.
يبقى أن الديمقراطية وليس الانقلاب هو الحل.