مصر وانبعاث السلطوية

06 يونيو 2014

Jonathan McHugh

+ الخط -

تكتب الأنظمة الشمولية، عندما تحتاج إلى ذلك، دساتير تشبهها تماماً، تدوّن فيها، من دون عقد نقص، ما تريده من سعادة مطلقة للدولة وللمجتمع والفرد، وترسم فيها الحاجة التاريخية للحزب الملهم، أو للقائد الضرورة، أو للزعيم الذي يحمل رسالة السماء، بديلاً من حكم المؤسسات وشرعية الانتخابات ورضا الناس.
لا تملك الأنظمة السلطوية الشجاعة نفسها. لذلك، هي تكتب دساتير لا تشبهها في شيء: تدبج فيها مقتضياتٍ تمتح بدرجة معقولة من مرجعيات الحقوق والحريات، وتقيم من خلالها مؤسسات "شكلية"، للمراقبة والتمثيل والمشاركة. بعد ذلك، تقذف القوانين والمؤسسات والمرجعيات في دائرة اللايقين والهشاشة.
فعلت السلطوية العربية بالدساتير ما تفعله، عادةً، الأنظمة السلطوية بالقانون، تريده خادماً طيعاً لأهدافها السياسية، ولا تقبل به أبداً سيداً. سيادة القانون أمر منافٍ لطبيعة هذه الأنظمة، حيث تحرص الدولة على أن تكون دولة قانونية، من دون أن تتحول إلى دولة للقانون، وحيث تضم الدولة مؤسسات عديدة، من دون أن تصبح دولة للمؤسسات.


السلطة، في حالات السلطوية العربية، لم تخرج من بنود الدستور، حتى تكن له الاحترام اللازم. إنها، وفقاً لأيديولوجيتها التأسيسية، سابقة عن الدستور نفسه، وأسمى منه، إنها وليدة شرعية التاريخ البعيد، أو هي تعبير عن إرادة الله في أرضه، أو ترجمة لفكرة الثورة المجيدة وتنظيمها الحزبي العتيد.
لذلك، عوض أن تكون الدولة، هنا، محكومة بالدستور، كنا أمام أنظمة سياسية سلطوية تحكم بالدستور، إلى جانب باقي آليات الضبط الأمني والتوزيع الريعي.
ظلت السلطوية العربية ترمي بوثائق الدستور التي لم تستغن عنها، لدواعي تأثيث الواجهة الليبرالية المزعومة، إلى ظلال الهامش السياسي، وتحولها إلى ما يشبه المَجاز، ومعرضة تطبيقها لنزعة تقريبية محكومة بالتقدير السياسي للحاكمين. إنها مجرد نصوص للاستئناس لا بأس من الاستناد إلى فصولها، إذا كان ذلك في مصلحة السلطة، ولا بأس من الالتفاف والتحايل عليها بكل ممكنات الهندسة القانونية، بإصدار قوانين ولوائح، تفرغ المبادئ الدستورية من مضمونها وجوهرها، أو بإيجاد مساحات من استثناءاتٍ تكاد، في النهاية، أن تخنق القواعد الأصلية لتتحول إلى قاعدة عامة، وعندما لا يمكنها أن تضمن الدستور إلى صفها، وتعجز عن تتفيهه بقوانين مشوهة، أو بتعطيله إلى غاية مرور المرحلة الطارئة/الدائمة، فإنها، أخيراً، تعمد مباشرة إلى انتهاكه وخرقه، بلا أدنى هاجس أخلاقي.
أحداث ما بعد 2011 عززت الطلب على دستورانية عربية جديدة، تقيّد الحاكمين، وتضمن الحرية، وفي أجواء الساحات العمومية، ولدت مثالية دستورية جديدة، تراهن على دور تغيير القوانين في تغيير مسارات التاريخ، لكن تطورات ما بعد اليوم الموالي للثورة، لم تكن بالخطية "المتوهمة" نفسها، وخارج النجاح الاستثنائي للتجربة الدستورية، صادف حلم الدستورانية العربية الجديدة متاعب كثيرة.
شكلت العودة القوية لشعار الدولة الدينية محاولة في العمق، لوأد مستمر لفكرة الدستور نفسه، وربما للارتداد، حتى على التراث المرتبك للسلطوية العربية في مجال الدساتير. الدولة الدينية التي تبدأ في المنطلق بنفي ممكنات التعاقد القانوني، بطابعه الوضعي والبشري والنسبي، لتجعل، في نهاية التحليل، مرجعيات الحياة السياسية متعالية عن التاريخ والأرض.
كذلك، فإن تصاعد ادعاءات هوياتية كثيرة شكّل، من جهته، نسفاً مباشراً لفكرة المواطنة الدستورية، والتي تربط الحقوق بالانتماء للمجموعة الوطنية، بغض النظر عن اللغة أو الدين أو الطبقة أو الطائفة أو الجنس أو اللون.
وكما أنه لا يمكن تصور الحديث، في الوقت نفسه، عن الدستور، وعن منطق الدولة الدينية، فإنه لا يمكن بتاتاً الجمع بين الدستور وخطابات الهوية التي تترك شروخاً في المواطنة، وتكرّس تمييزاً واضحاً بناءً على انتماءات ما قبل مواطنية!
ومن شأن مؤشرات عودة العسكر إلى الحياة السياسية، في مرحلة ما بعد الثورات، أن تطرح بحدة القلق حيال إعادة إنتاج مساحات سلطوية واسعة، خارج منطق الدستور وخارج دائرة المساءلة.
فقط في هذا الإطار، يمكن قراءة حدث الانتخابات المصرية الأخيرة تمريناً كاريكاتورياً على انبعاث السلطوية العربية.


 

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي