04 نوفمبر 2024
معارضة سورية بعقل السلطة
ينتابني شعور بالمسؤولية بضرورة الاعتراف العلني بصوت أعلى من أصوات أصحاب الاتهامات "أنني لست من المعارضة السورية"، وهي حقيقة ليس من بد أن أذكرها، وأعود إلى حقيقة الأمر كما أفهمه، مسؤولة عن خياراتي السابقة والحالية واللاحقة، وإذا كان بعض المشككين بولائي للنظام سابقاً، وأنا في عملي في صحيفة تشرين، كان نتيجة إخلاصي لواجبي إعلامية، وهو ما تسبّب بأن يتخذ مجلس الشعب قراره بصرفي من العمل في سبتمبر/ أيلول من عام 2009، ثم يعود عن قراره في الجلسة نفسها، حسب التوجيهات التي تعوّد أن يتلقّاها، مجلسا ليس من بينه أعضاء يعرفون النظام والدستور الذي يحكم عملهم، وبلادهم، وهو اليوم كحال المشكّكين بالأمر في جهة الثورة، والذين ما زالوا يردّدون على مسامعي ما قلته، وأنا رئيسة تحرير "تشرين"، بما يتعلق بعلاقتي بالنظام، متناسين أنني كامرأة حملت رأسي على كتفي، وقرّرت المواجهة وأنا داخل دمشق، ولست هاربة بعيداً عن حدودها، أو موقعة لعقد بيع، أو صفقة منصب على الضفة المواجهة، ولأي جهةٍ داعمة.
وفي العودة إلى البدايات، أي إلى مشهد الثورة كما كنت أراه من داخل النظام، ربما يسهل الأمر في تداعي الأحداث لاحقاً، وتحديد موقعي الجغرافي فيها، بناء على منظومة قيمية وأخلاقية، وليس على تنافسٍ وتصارعٍ على السلطة التي كانت أقرب إلي من يوم غد.
وفي مصارحة علنية، أقول لو كان هدف الثورة، حين انطلقت، استلام السلطة بما لها وعليها، كما حال واقع المعارضين الذين يتصدّرون الآن المشهد السياسي، من دون مشروع وطني بديل يحملونه، في مواجهة ما ثار عليه السوريون من ظلمٍ وقمعٍ واستعبادٍ لهم، لكنت اليوم ألوم نفسي في ما أخذتني إليه. ولكن، ليقيني أن الثورة كانت ضد آليات الحكم الفاسد وأدواته، كان على مثلي ألا تتأخر في اصطفافها مع الثورة واستمرارها، سواء كانت بين قياداتها أو على قارعة الطريق فيها، حتى وأنا التي كنت قلت، يوما في معرض إيماني "المضلّل" بمشروع إصلاحي للأسد الابن، أنني وأولادي سأكون معه، لو كان انتصر للثورة المحقّة التي أقر هو بها بداية، لجنّب سورية والسوريين هذه الحرب التي أودت به قبل غيره إلى جحيمها، لكنه هو من تخلّى عن السوريين، ليقدّمهم وقوداً وقرباناً لمنصبٍ لن يستطيع الحفاظ عليه، مهما امتدت الأيام وخدمته الظروف، من دون إرادتهم.
بدايةً، لا بد من التوضيح أن التنازع بين النظام والمعارضة على السلطة لم يكن المحرّك الأساسي للثورة السورية، وبالتالي أعود لأكرّر ما كتبته، وأنا في دمشق، في 13 مارس/ آذار 2012 لـ بي بي سي، بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاقة الثورة: "الرصاص الذي قتل الخوف وبعبع الصمت هو الرصاص ذاته الذي أنتج حراكاً لم يهدأ، ولن يهدأ، إلا بتحقيق أهدافه كاملة، دون أن يتقاسمها متمسكٌ بالسلطة من هنا، أو موعودٌ بها هناك. حراك لن يستطيع أحد ادّعاء قيادته، أو تمثيله، أو شرف التخطيط له، لأنه شعبي ولد من رحم الصبر، ودفع هذا الشعب أثماناً باهظة حتى أشعل بداخل النفوس جذوته". وبناء عليه، ما زلت لا أراهن على صفقات التسوية بين النظام والمعارضين، حيث يتقاسمون السلطة من دون تغيير مبناها ومعناها ووظيفتها ودورها.
وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أن النظام الذي يفاوض اليوم ليس كالمعارضة التي تجلس إليه، مستسلمة إلى ما يقودها إليه ممولوها، فهو لا يؤمن بالمصادفات والمفاجآت، ولايترك الريح تتلاعب فيه كحال كيانات المعارضة التي تتنقل من كنف دولة إلى سواها. وعندما صرّح وزير خارجية النظام، وليد المعلم، إنه سيغرق العالم بالتفاصيل، فهو فعلياً ينقل ما استعدّ له منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي، السابقة للثورة السورية، بل بدأ نشاطه ضد الثورة المحتملة، قبل قيامها من خلال تكثيف رقابته، وإحكام قبضته على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث حظر موقع فيسبوك، وشدّد الرقابة على الاتصالات، وعلى حركة تنقلات ناشطين سوريين. وزاد على ذلك دراسة مواقف بعض الإعلاميين والمثقفين من الثورات العربية، التي انطلقت تباعا في تونس ومصر وليبيا واليمن، حتى عندما كانت تلك المواقف تتطابق مع الموقف الرسمي للنظام. كما شكل خلايا متعدّدة، أمنية وعسكرية وبحثية وإعلامية، للبحث في معالجة مقدّمات الثورة المحتملة، وكان الهدف منها جميعها تقديم سيناريوهات لمعالجة الخطر القادم من رياح الربيع العربي المتناثر في الأرجاء، إلا أنه لا بد من التذكير هنا بأن أي بحثٍ في ظل الخوف لن يقدّم نتائج يمكن الاعتماد عليها في حل المشكلة المستهدفة، فالمقدمات التي كان يعرضها المجتمعون، (كنت من المشاركين فيها) لم تكن تحمل كل الحقائق، لتوضع على طاولة البحث، وذلك لوجود عناصر الأمن تحت أسماء مستعارة حيناً (لخديعة الباحثين)، أو بصفاتهم الرسمية
المعروفة في أحايين أخرى، ما توجب منا دائماً الحذر في أمرين: عدم الإفراط في تقديم المعلومات تفادياً للمساءلة عن مصدرها، وهذا يعني دراسة أنصاف الحقيقة، وارتداداتها على الواقع والمستقبل. عدم التعامل مع المسؤولين الحقيقيين عن التقصير أو الفساد، نتيجة قربهم أو تقاطع مصالحهم مع من يعقد تلك الاجتماعات. وبالتالي، السيناريو الذي سيخرج من هذه المعطيات يشبهها تماماً، بحيث يقترب من المشكلة ولا يلامسها، ويتعامل بمعايير مزدوجة مع مشكلات المجتمع السوري، حسب قرب المسؤول عنها أو بعده من السلطة السياسية والأمنية.
ولكن ما تقدم لا ينفي حالة الذعر التي كانت تخيم على النظام في أعلى مستوياته من تداعيات الربيع العربي، خلافاً للتصريحات التي أدلى بها بشار الأسد آنذاك، معتبراً أن الدول التي اجتاحتها رياح الربيع العربي هي التي تقاربت مع إسرائيل، بعلاقات تطبيع يرفضها الشعب العربي، وذلك في متابعة استغلال القضية الفلسطينية، واعتبارها القضية المعيارية في تقييم الشعوب لحكامها من جهة، ومحاولة للهروب من استحقاقات مرحلة التغيير العربي من جهة ثانية. ولعل واقع علاقات الأنظمة العربية مع إسرائيل الذي ظهر على السطح يزيل عنا شبهة اللبس في وجود صراع عربي إسرائيلي أساساً، أي أنه كان صراعاً ضد الشعوب، وكنا، نحن الإعلاميين، مبتوري النظر أدواته التجميلية ليس أقل، وليتنا كنا ليس أكثر.
ومن خلال تجربة الخوف المبرّر من طرح القضايا على حقيقتها عند النظام، يمكن تفسير النقد غير المقنن بشأن واقع المعارضة وأخطائها، بل وجرائم المحسوبين عليها، وحتى حول مآلات الثورة وعثراتها وسباتها، ما يدفع بعض قيادات المعارضة التي تعمل بعقل السلطة (النظام البديل) لترى في النقد الموجّه لها مبرراً لانتقاص وطنية أو ثورية قائله، والعودة لنبش تصريحاتٍ لا أنكرها، بل أنطلق منها في نصفها الذي يغيّبه "هؤلاء"، وهو الولاء للمشروع الإصلاحي الذي كان "شعار بشار الأسد" ثم تهاوى، وبقي الأمل في شعار الثورة "الحرية والعدالة والمواطنة"، وهو ما يبدو صعبا على جهتي التفاوض اليوم بالتساوي، لشدّة ما يمكن أن يصيبهم منه.
وفي العودة إلى البدايات، أي إلى مشهد الثورة كما كنت أراه من داخل النظام، ربما يسهل الأمر في تداعي الأحداث لاحقاً، وتحديد موقعي الجغرافي فيها، بناء على منظومة قيمية وأخلاقية، وليس على تنافسٍ وتصارعٍ على السلطة التي كانت أقرب إلي من يوم غد.
وفي مصارحة علنية، أقول لو كان هدف الثورة، حين انطلقت، استلام السلطة بما لها وعليها، كما حال واقع المعارضين الذين يتصدّرون الآن المشهد السياسي، من دون مشروع وطني بديل يحملونه، في مواجهة ما ثار عليه السوريون من ظلمٍ وقمعٍ واستعبادٍ لهم، لكنت اليوم ألوم نفسي في ما أخذتني إليه. ولكن، ليقيني أن الثورة كانت ضد آليات الحكم الفاسد وأدواته، كان على مثلي ألا تتأخر في اصطفافها مع الثورة واستمرارها، سواء كانت بين قياداتها أو على قارعة الطريق فيها، حتى وأنا التي كنت قلت، يوما في معرض إيماني "المضلّل" بمشروع إصلاحي للأسد الابن، أنني وأولادي سأكون معه، لو كان انتصر للثورة المحقّة التي أقر هو بها بداية، لجنّب سورية والسوريين هذه الحرب التي أودت به قبل غيره إلى جحيمها، لكنه هو من تخلّى عن السوريين، ليقدّمهم وقوداً وقرباناً لمنصبٍ لن يستطيع الحفاظ عليه، مهما امتدت الأيام وخدمته الظروف، من دون إرادتهم.
بدايةً، لا بد من التوضيح أن التنازع بين النظام والمعارضة على السلطة لم يكن المحرّك الأساسي للثورة السورية، وبالتالي أعود لأكرّر ما كتبته، وأنا في دمشق، في 13 مارس/ آذار 2012 لـ بي بي سي، بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاقة الثورة: "الرصاص الذي قتل الخوف وبعبع الصمت هو الرصاص ذاته الذي أنتج حراكاً لم يهدأ، ولن يهدأ، إلا بتحقيق أهدافه كاملة، دون أن يتقاسمها متمسكٌ بالسلطة من هنا، أو موعودٌ بها هناك. حراك لن يستطيع أحد ادّعاء قيادته، أو تمثيله، أو شرف التخطيط له، لأنه شعبي ولد من رحم الصبر، ودفع هذا الشعب أثماناً باهظة حتى أشعل بداخل النفوس جذوته". وبناء عليه، ما زلت لا أراهن على صفقات التسوية بين النظام والمعارضين، حيث يتقاسمون السلطة من دون تغيير مبناها ومعناها ووظيفتها ودورها.
وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أن النظام الذي يفاوض اليوم ليس كالمعارضة التي تجلس إليه، مستسلمة إلى ما يقودها إليه ممولوها، فهو لا يؤمن بالمصادفات والمفاجآت، ولايترك الريح تتلاعب فيه كحال كيانات المعارضة التي تتنقل من كنف دولة إلى سواها. وعندما صرّح وزير خارجية النظام، وليد المعلم، إنه سيغرق العالم بالتفاصيل، فهو فعلياً ينقل ما استعدّ له منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي، السابقة للثورة السورية، بل بدأ نشاطه ضد الثورة المحتملة، قبل قيامها من خلال تكثيف رقابته، وإحكام قبضته على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث حظر موقع فيسبوك، وشدّد الرقابة على الاتصالات، وعلى حركة تنقلات ناشطين سوريين. وزاد على ذلك دراسة مواقف بعض الإعلاميين والمثقفين من الثورات العربية، التي انطلقت تباعا في تونس ومصر وليبيا واليمن، حتى عندما كانت تلك المواقف تتطابق مع الموقف الرسمي للنظام. كما شكل خلايا متعدّدة، أمنية وعسكرية وبحثية وإعلامية، للبحث في معالجة مقدّمات الثورة المحتملة، وكان الهدف منها جميعها تقديم سيناريوهات لمعالجة الخطر القادم من رياح الربيع العربي المتناثر في الأرجاء، إلا أنه لا بد من التذكير هنا بأن أي بحثٍ في ظل الخوف لن يقدّم نتائج يمكن الاعتماد عليها في حل المشكلة المستهدفة، فالمقدمات التي كان يعرضها المجتمعون، (كنت من المشاركين فيها) لم تكن تحمل كل الحقائق، لتوضع على طاولة البحث، وذلك لوجود عناصر الأمن تحت أسماء مستعارة حيناً (لخديعة الباحثين)، أو بصفاتهم الرسمية
ولكن ما تقدم لا ينفي حالة الذعر التي كانت تخيم على النظام في أعلى مستوياته من تداعيات الربيع العربي، خلافاً للتصريحات التي أدلى بها بشار الأسد آنذاك، معتبراً أن الدول التي اجتاحتها رياح الربيع العربي هي التي تقاربت مع إسرائيل، بعلاقات تطبيع يرفضها الشعب العربي، وذلك في متابعة استغلال القضية الفلسطينية، واعتبارها القضية المعيارية في تقييم الشعوب لحكامها من جهة، ومحاولة للهروب من استحقاقات مرحلة التغيير العربي من جهة ثانية. ولعل واقع علاقات الأنظمة العربية مع إسرائيل الذي ظهر على السطح يزيل عنا شبهة اللبس في وجود صراع عربي إسرائيلي أساساً، أي أنه كان صراعاً ضد الشعوب، وكنا، نحن الإعلاميين، مبتوري النظر أدواته التجميلية ليس أقل، وليتنا كنا ليس أكثر.
ومن خلال تجربة الخوف المبرّر من طرح القضايا على حقيقتها عند النظام، يمكن تفسير النقد غير المقنن بشأن واقع المعارضة وأخطائها، بل وجرائم المحسوبين عليها، وحتى حول مآلات الثورة وعثراتها وسباتها، ما يدفع بعض قيادات المعارضة التي تعمل بعقل السلطة (النظام البديل) لترى في النقد الموجّه لها مبرراً لانتقاص وطنية أو ثورية قائله، والعودة لنبش تصريحاتٍ لا أنكرها، بل أنطلق منها في نصفها الذي يغيّبه "هؤلاء"، وهو الولاء للمشروع الإصلاحي الذي كان "شعار بشار الأسد" ثم تهاوى، وبقي الأمل في شعار الثورة "الحرية والعدالة والمواطنة"، وهو ما يبدو صعبا على جهتي التفاوض اليوم بالتساوي، لشدّة ما يمكن أن يصيبهم منه.