31 أكتوبر 2017
معارك "الأصولية" اليهودية الانتقائية
تدلّ القرارات التي اتخذتها، أخيراً، مجالس بلدية عديدة في الكيان الصهيوني، بمبادرة تدشين شركات للنقل العام للعمل فقط أيام السبت، لكسر "حُرمة" هذا اليوم على "الإنجازات" التي حققها "العلمانيون" في معركتهم الهادفة لتغليب الحريات الشخصية على مقتضيات احترام "الطابع اليهودي" للدولة. وإن كانت "حُرمة" السبت من أهم "الفرائض" الدينية التي عملت نخب الحكم العلمانية تحديداً، في العقود الأربعة الأولى من عمر الكيان الصهيوني، على إلزام الجمهور الإسرائيلي باحترامها من منطلق احترام "يهودية الدولة"، فإن المفارقة تكمن في حقيقة أن اتساع مظاهر المسّ بهذه "الحرمة" جاء تحديداً في وقتٍ تعاظم فيه دور الأحزاب والحركات الدينية في عملية صنع القرار الصهيوني، من خلال مشاركتها الدائمة في الائتلافات الحاكمة، وزاد تأثير المرجعيات الروحية اليهودية على الفضاء العام بشكل كبير.
وإذا كان الإفصاح عن الميول المثلية الجنسية عدّ، في الماضي، من "المحرّمات"، فإن المثليين في إسرائيل باتوا يتأطرون في أجسامٍ تمثيليةٍ تُعنى بالدفاع عن "حقوقهم"، ولا سيما الحق في الزواج والميراث، ناهيك عن السماح لهم بتنظيم مسيراتٍ صاخبةٍ في القدس المحتلة وتل أبيب، يطلقون عليها "مسيرة الفخر". وقد عمد أكبر حزبين، الليكود والعمل، إلى تضمين ممثلٍ عن المثليين في الكتلة البرلمانية لكل منهما. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل سمح الجهاز القضائي الإسرائيلي لأول مرة بكسر احتكار المرجعيات الدينية الحريدية المتشدّدة الإشراف على طقوس "العبادة" في حائط البراق، أو ما يطلق عليه اليهود "حائط المبكى"، حيث بات يحقّ للنساء، اللواتي ينتمين للتيار الإصلاحي "أداء الصلوات" والغناء في مكانٍ مخصصٍّ لهن هناك. وقد حفّز هذا الواقع نخباً علمانية على تقديم التماساتٍ للمحكمة العليا، للمطالبة بوضع حدٍّ لاحتكار المؤسسة الدينية الرسمية (الحاخامية الكبرى) مهمة الإشراف على إنتاج المواد الغذائية، ومراعاة إعدادها وفق التعاليم الدينية، وهي المهمة التي يطلق عليها بالعبرية "هكشروت".
لكن نظرةً متأنيةً تدلل على أن إبداء المرونة إزاء المسّ ببعض مظاهر الطابع اليهودي لـ "الدولة"، لصالح الحريات الشخصية، كان نتاج تحوّل طرأ على سلم أولويات قوى "الأصولية" اليهودية في إسرائيل، فهذه القوى التي تحظى بتمثيلٍ قويٍّ ومؤثر، في البرلمان والحكومة والمؤسسات القضائية والتعليمية والاجتماعية، باتت أكثر زهداً في خوض المواجهات التي تفضي إلى تعاظم الاستقطاب الداخلي. وأصبحت معنيةً بتوفير الأرضية لضمان أكبر حشدٍ
جماهيري خلف اجتهاداتها "الفقهية"، ومواقفها الأيديولوجية المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين والعرب بشكل عام. وهناك ما يدلّل على أن "الأصولية" اليهودية حقّقت، بالفعل، نجاحات كبيرة على هذا الصعيد. فبعد أن كانت الدعوة إلى التدخل البشري من أجل بناء الهيكل "الثالث" على أنقاض الحرم القدسي تقتصر على حركاتٍ ومرجعياتٍ دينية، تمثل هوامش "الأصولية اليهودية"، فإن عدداً كبيراً من المرجعيات الدينية والنخب السياسية، باتت تؤيد المسّ بالمسجد الأقصى، من أجل السماح ببناء الهيكل. وقد أدت كثافة حركة "التأصيل الفقهي" الهادفة إلى الاعتراض على "فتوى" سابقةٍ للحاخامية الكبرى، تحظر على اليهود الصلاة في الحرم القدسي الشريف، إلى استجابة قطاعاتٍ واسعةٍ من الجمهور الإسرائيلي للدعوات التي يطلقها حاخامات ووزراء ونواب لتدنيس المسجد الأقصى و"أداء الصلوات" التلمودية داخله. وقد زادت معدّلات استجابة الجمهور الصهيوني للمشاركة في المناشط التي تهدف إلى استفزاز المقدسيين، والتي كان آخرها مسيرة "الأعلام" الضخمة التي نظمت قبل أسبوعين، وكان أبرز شعاراتها: "محمد مات" و"الموت للعرب".
ليس هذا فحسب، بل إنه قد تم إضفاء شرعيةٍ على تموضع القوى الخلاصية المسيحانية التي لا تكتفي بالدعوة لتدمير الأقصى، بل تجاهر بالعمل لتحقيق هذا الهدف، في قلب الإجماع الصهيوني. لذا، لم يكن مستهجناً أن أحداً في إسرائيل لم يبد أيِّ اعتراضٍ على انضمام الحاخام يهودا غليك، الأكثر نشاطاً في مجال التنظير لفكرة بناء الهيكل والأشد مثابرةً على تنظيم حملات التدنيس التي يتعرّض لها الأقصى، أخيراً للكتلة البرلمانية لحزب الليكود الحاكم.
وقد قبل المجتمع الصهيوني الخطوات التي أقدم عليها ممثلو "الأصولية" اليهودية في الحكومة، من أجل تجذير وعي النشء اليهودي بضرورة المسّ بالأقصى لضمان بناء الهيكل. فقد أوجب وزير التعليم السابق، الحاخام شاي بيرون، وسلفه الحالي، نفتالي بنات، على المدارس، وضمنها العلمانية تنظيم رحلات سنوية لمؤسسة معهد الهيكل التي أخذت على عاتقها مهمة زيادة وعي الإسرائيليين بضرورة بناء الهيكل على أنقاض الأقصى.
ومن أجل إغراء أكبر قطاع من الجمهور العلماني بالانضواء تحت لوائها، عمدت قوى "الأصولية" اليهودية المتشدّدة إلى صياغة لوائحها التنظيمية بشكل يسمح للعلمانيين بالانضمام لها، من دون أن يكونوا مطالبين بالتخلي عن أنماط حياتهم العلمانية.
وتدلّل ولادة منظمة "لاهفا" الإرهابية، بزعامة الحاخام بنتسي غوفشتاين، على المرونة التي تبديها "الأصولية" اليهودية في سعيها إلى ضمان توسيع دائرة التأييد لأيديولوجيتها. فعلى الرغم من أن قيادة هذه المنظمة التي تنفذ اعتداءاتٍ إرهابيةٍ ضد الفلسطينيين تحديداً في المدن المختلطة، تؤمن بالمنطلقات الدينية في نسختها الحريدية الأكثر تشدّداً، إلا أنها فتحت باب الانتساب أمام الشباب العلماني. وقد تباهى غوفشتاين، أخيراً، بأن الأغلبية الساحقة من المنتسبين لمنظمته في مدينة صفد المحتلة هم من العلمانيين، حيث عرض على حسابه على "تويتر" صورةً تظهر فيها فتيات علمانيات من أعضاء المنظمة، وهن يرتدين تنانير قصيرة، قبيل مشاركتهن إلى جانب شباب آخرين في حملة لـ "صيد" فلسطينيين في المدينة.
من أسف، المظاهر التي تعكس تعاظم دور القوى "الأصولية" اليهودية المتشدّدة، والتي أسهمت في دفع المجتمع الصهيوني نحو جنون التطرّف، تبقى تحت "رادار" الإعلام العالمي الذي يظل حبيس الاهتمام بـ "الأصولية" الإسلامية.
وإذا كان الإفصاح عن الميول المثلية الجنسية عدّ، في الماضي، من "المحرّمات"، فإن المثليين في إسرائيل باتوا يتأطرون في أجسامٍ تمثيليةٍ تُعنى بالدفاع عن "حقوقهم"، ولا سيما الحق في الزواج والميراث، ناهيك عن السماح لهم بتنظيم مسيراتٍ صاخبةٍ في القدس المحتلة وتل أبيب، يطلقون عليها "مسيرة الفخر". وقد عمد أكبر حزبين، الليكود والعمل، إلى تضمين ممثلٍ عن المثليين في الكتلة البرلمانية لكل منهما. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل سمح الجهاز القضائي الإسرائيلي لأول مرة بكسر احتكار المرجعيات الدينية الحريدية المتشدّدة الإشراف على طقوس "العبادة" في حائط البراق، أو ما يطلق عليه اليهود "حائط المبكى"، حيث بات يحقّ للنساء، اللواتي ينتمين للتيار الإصلاحي "أداء الصلوات" والغناء في مكانٍ مخصصٍّ لهن هناك. وقد حفّز هذا الواقع نخباً علمانية على تقديم التماساتٍ للمحكمة العليا، للمطالبة بوضع حدٍّ لاحتكار المؤسسة الدينية الرسمية (الحاخامية الكبرى) مهمة الإشراف على إنتاج المواد الغذائية، ومراعاة إعدادها وفق التعاليم الدينية، وهي المهمة التي يطلق عليها بالعبرية "هكشروت".
لكن نظرةً متأنيةً تدلل على أن إبداء المرونة إزاء المسّ ببعض مظاهر الطابع اليهودي لـ "الدولة"، لصالح الحريات الشخصية، كان نتاج تحوّل طرأ على سلم أولويات قوى "الأصولية" اليهودية في إسرائيل، فهذه القوى التي تحظى بتمثيلٍ قويٍّ ومؤثر، في البرلمان والحكومة والمؤسسات القضائية والتعليمية والاجتماعية، باتت أكثر زهداً في خوض المواجهات التي تفضي إلى تعاظم الاستقطاب الداخلي. وأصبحت معنيةً بتوفير الأرضية لضمان أكبر حشدٍ
ليس هذا فحسب، بل إنه قد تم إضفاء شرعيةٍ على تموضع القوى الخلاصية المسيحانية التي لا تكتفي بالدعوة لتدمير الأقصى، بل تجاهر بالعمل لتحقيق هذا الهدف، في قلب الإجماع الصهيوني. لذا، لم يكن مستهجناً أن أحداً في إسرائيل لم يبد أيِّ اعتراضٍ على انضمام الحاخام يهودا غليك، الأكثر نشاطاً في مجال التنظير لفكرة بناء الهيكل والأشد مثابرةً على تنظيم حملات التدنيس التي يتعرّض لها الأقصى، أخيراً للكتلة البرلمانية لحزب الليكود الحاكم.
وقد قبل المجتمع الصهيوني الخطوات التي أقدم عليها ممثلو "الأصولية" اليهودية في الحكومة، من أجل تجذير وعي النشء اليهودي بضرورة المسّ بالأقصى لضمان بناء الهيكل. فقد أوجب وزير التعليم السابق، الحاخام شاي بيرون، وسلفه الحالي، نفتالي بنات، على المدارس، وضمنها العلمانية تنظيم رحلات سنوية لمؤسسة معهد الهيكل التي أخذت على عاتقها مهمة زيادة وعي الإسرائيليين بضرورة بناء الهيكل على أنقاض الأقصى.
ومن أجل إغراء أكبر قطاع من الجمهور العلماني بالانضواء تحت لوائها، عمدت قوى "الأصولية" اليهودية المتشدّدة إلى صياغة لوائحها التنظيمية بشكل يسمح للعلمانيين بالانضمام لها، من دون أن يكونوا مطالبين بالتخلي عن أنماط حياتهم العلمانية.
وتدلّل ولادة منظمة "لاهفا" الإرهابية، بزعامة الحاخام بنتسي غوفشتاين، على المرونة التي تبديها "الأصولية" اليهودية في سعيها إلى ضمان توسيع دائرة التأييد لأيديولوجيتها. فعلى الرغم من أن قيادة هذه المنظمة التي تنفذ اعتداءاتٍ إرهابيةٍ ضد الفلسطينيين تحديداً في المدن المختلطة، تؤمن بالمنطلقات الدينية في نسختها الحريدية الأكثر تشدّداً، إلا أنها فتحت باب الانتساب أمام الشباب العلماني. وقد تباهى غوفشتاين، أخيراً، بأن الأغلبية الساحقة من المنتسبين لمنظمته في مدينة صفد المحتلة هم من العلمانيين، حيث عرض على حسابه على "تويتر" صورةً تظهر فيها فتيات علمانيات من أعضاء المنظمة، وهن يرتدين تنانير قصيرة، قبيل مشاركتهن إلى جانب شباب آخرين في حملة لـ "صيد" فلسطينيين في المدينة.
من أسف، المظاهر التي تعكس تعاظم دور القوى "الأصولية" اليهودية المتشدّدة، والتي أسهمت في دفع المجتمع الصهيوني نحو جنون التطرّف، تبقى تحت "رادار" الإعلام العالمي الذي يظل حبيس الاهتمام بـ "الأصولية" الإسلامية.