في وقتٍ كان فيه رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، يعيد التأكيد على سياسة "النأي بالنفس" الإلزامية لكل القوى المشاركة في الحكومة، خلال جلسة مجلس الوزراء أمس الخميس، كان موكب وزير داخلية النظام السوري محمد الشعار، يصل إلى منطقة القاع الحدودية اللبنانية مع سورية للمشاركة في تدشين المركز الجديد للأمن العام اللبناني، وافتتاح معبر جوسية من الناحية السورية أمام المسافرين بالاتجاهين. وتزامن ذلك مع الافتتاح الضمني لطريق طهران ــ بغداد وبدء إرسال إيران دعمها العسكري لنظام بشار الأسد عن طريق العراق بعدما أمسكت مباشرة ومن خلال مليشيات "الحشد الشعبي" العراقية، معظم مساحة الحدود بين العراق وسورية.
في جوسية، شارك عن الجانب اللبناني مدير عام جهاز الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وعضو كتلة "حزب الله" النيابية عن المنطقة نوّار الساحلي، في حفل افتتاح المعبر. هناك لم يُفوّت الشعّار فرصة التأكيد على "السياق الطبيعي بين لبنان وسورية"، وعلى "خدمة العلاقات الطبيعية بين البلدين"، على حد تعبيره. لكن الكثير من اللبنانيين وسكان مدينة طرابلس تحديداً، يذكرون سياقات عمل الشعّار في لبنان في إطار مُختلف كُليّاً. تدرّج الرجل في منظومة إجرام النظام السوري حتى وصل إلى منصب وزير. وسبق ذلك إشرافه المباشر على تعذيب وقتل وإخفاء مواطنين لبنانيين خلال خدمته كضابط أمن مع القوات السورية التي احتلت لبنان (1976 ـ 2005). تلاقت مواقف الشعّار مع تصريحات النائب الساحلي الذي اعتبر أن "افتتاح معبر جوسية الحدودي خطوة أولى لعودة النازحين إلى سورية"، وأن "لقاء المسؤولين السوريين أمر طبيعي، وهذا سينعكس إيجابياً على لبنان". كما ربط الساحلي بين افتتاح المعبر و"الانتصار على الإرهاب الذي حققناه (النظام السوري وحزب الله) في سورية".
وكان الحزب قد سيطر على المعبر بعيد سيطرته على مدينة القصير في ريف حمص الجنوبي عام 2013، ودفع بعدها بقوات المعارضة السورية وقوات تنظيم "النصرة" جنوباً باتجاه مدن وبلدات القلمون قبل استعادتها تباعاً بالنيابة عن قوات النظام السوري التي انسحبت من القلمون مع بداية الثورة. وعقد ما تبقى من تلك القرى اتفاقات شفهية مع المجالس المدنية والثوار لتنظيم العلاقة معهم.
استمرت سيطرة الحزب على المعبر، مع الحديث عن تحويل القصير إلى قاعدة عسكرية أساسية للحزب، وهمزة وصل بين ميناء اللاذقية، الذي استبدل به "حزب الله" مرفأ بيروت، ومحافظة البقاع لنقل معدات لوجستية تُستخدم في نشاطه العسكري. غير أن السلطات اللبنانية وأجهزة النظام السوري عادت لتولي إدارة المعبر رسمياً، من دون أن يعني ذلك تنازل الحزب أو خسارته لإمكانية التنقل عبر المعبر من دون عوائق ومن دون إجراءات رسمية. وهو ما فسّر عدم تسجيل دخول القيادي في "الحشد الشعبي" العراقي قيس الخزعلي إلى الأراضي اللبنانية عبر أي نقطة تابعة للأمن العام اللبناني لا براً ولا بحراً ولا جواً. مع ترجيح مصادر لبنانية أن يكون الخزعلي قد وصل إلى لبنان براً عبر أحد المعابر مع سورية.
وسبق أيضاً أن استفاد الوزير اللبناني السابق، مستشار رئيس النظام السوري ميشال سماحة، من المعاملة الاستثنائية لحلفاء النظام على الحدود لنقل عبوات بهدف اغتيال شخصيات لبنانية وإشعال فتنة مذهبية. وفي الإطار المذهبي نفسه كانت زيارة الشيخ الموقوف حالياً أحمد الأسير، إلى أطراف مدينة القصير قبل أيام من مهاجمتها من قبل "حزب الله"، مع تولّي أحد قادة الفصائل السورية الصغيرة المعارضة للنظام السوري، محمد سيف الدين، المعروف بـ"السلس"، تأمين دخول الأسير إلى محيط القصير عبر معبر جوسية مقابل مبلغ مالي كبير. السلس، الذي قُتل على يد عناصر من "داعش" العام الماضي في بلدة عرسال اللبنانية، باع السلاح للأسير، الذي استخدمه مقاتلوه في معركته ضد الجيش اللبناني و"سرايا المقاومة" التابعة لـ"حزب الله" في منطقة عبرا في مدينة صيدا، جنوبي لبنان، عام 2014 بعد معركة القصير. كما لبّى عدد قليل من الشبان اللبنانيين نداءات النفير و"الجهاد" التي أعلنها الأسير والشيخ سالم الرافعي لـ"نصرة القصير"، وانتقلوا إلى داخل الأراضي السورية عبر نقطة جوسية. قُتل بعضهم هناك ودُفن بعد نعيه "شهيداً" في مدينته الأم في لبنان، وعاد بعضهم وشارك في معركة عبرا بعد تلقي تدريبات عسكرية في سورية. وقادت بعضهم الآخر رحلات الانتماء الجهادي إلى إدلب أو الرقة وأصبح مصيرهم مجهولاً. كما تمّت تسوية أوضاع عدد قليل جداً من العائدين الذين سلموا أنفسهم للجيش اللبناني بعد أن لمسوا حجم الخلافات بين الفصائل السورية وعدم جدية عدد منها في قتال قوات النظام السوري.
احتاجت السلطات اللبنانية إلى اندلاع حرب إقليمية في سورية لتلتفت إلى التقصير الكبير تجاه سكان البلدات الحدودية شرقي البلاد، التي تنحصر خيارات أبنائها إما بالانضمام إلى الجيش اللبناني بهدف تحسين الوضع الاقتصادي للأسرة، أو التحوّل إلى مطلوبين بسبب مخالفة القانون مع غياب خيارات العمل، أو التحوّل إلى مقاتلين في صفوف "حزب الله"، وخصوصاً في البلدات ذات الأغلبية الشيعية التي تنتشر في البقاع الشمالي.
أضاءت التطورات الميدانية الحدودية بين البلدين على حجم التقصير الهائل للسلطات اللبنانية في إدارة المعابر الحدودية مع سورية، وفي تنمية المناطق الحدودية، التي تحولت خلال عقود إلى نقاط انطلاق لتهريب مُختلف أنواع البضائع والمُنتجات الزراعية والصناعية والخردوات والوقود بين البلدين قبل انطلاق الثورة السورية عام 2011. وذكر الكثير من السكّان أن المُهرّبين لجأوا إلى نقل مادة المازوت والمواد الغذائية من سورية إلى لبنان خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006. يومها تحوّل المهرّبون إلى "مقاومين" ساهموا في فك الحصار الذي فرضته إسرائيل على لبنان.
وقابل التقصير اللبناني في إدارة المعابر وغياب نقاط الأمن العام تواطؤ ضباط وعناصر الحواجز السورية لتسهيل عمليات التهريب، التي بدّلت نشاطاتها بعد اندلاع الثورة وتم تهريب السلاح إلى جانب المواد الغذائية والطبية بالاتجاهين. تطوّرت خلال هذه الفترة منظومة تجارية مُستقلة تجاوزت كل الخلافات الطائفية والسياسية بين أبناء البلدات الحدودية. وأمّن مهرّبون شيعة ذخائر ومواد طبية وغذائية للمقاتلين السوريين مقابل المال، بمعزل عن المواقف السياسية. وهي الحالة التي أنهاها لجوء تنظيمي "داعش" و"النصرة" الإرهابيين إلى نقل سيارات مُفخخة من سورية إلى لبنان لاستهداف المدنيين، فعاد المُهربون إلى نمط التهريب الذي كان مُتّبعاً قبل اندلاع الثورة. ومع مشاركة "حزب الله" في القتال إلى جانب قوات النظام السوري بحجة "حماية البلدات الشيعية اللبنانية الحدودية من الاعتداءات الطائفية للمسلحين السوريين"، اتخذت السيطرة على المعبر أهمية عسكرية للطرفين. مع اعتماد عناصر المعارضة السورية على نقطة جوسية لنقل الجرحى المدنيين والمقاتلين إلى مستشفيات لبنان، واستقبال مساعدات لوجستية من لبنان، وحاجة "حزب الله" المُقابلة إلى المعبر كنقطة آمنة لنقل المقاتلين والمعدات بين البلدين. وأمس تمّ تسخير إعادة افتتاح المعبر بشكل رسمي في السياسة لإعادة فرض "حزب الله" وحلفائه خيار تطبيع العلاقات السياسية مع النظام السوري على الحكومة اللبنانية، في مخالفة لسياسة "النأي بالنفس" التي عاد الحريري عن استقالته الحكومية بسببها بعد إعادة التزام كل القوى المشاركة في الحكومة بها، ومنهم الحزب.
يُذكر أنه سبق لوزير داخلية النظام السوري أن وصل إلى لبنان جريحاً، بعد تفجير خلية الأزمة عام 2012، ورقد في أحد أسرّة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. وتولى جهاز الأمن العام حماية محيط المستشفى يومها. ولم تعر السلطات اللبنانية لبلاغ تقدم به أحد المحامين لتوقيف الشعار بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وقتل واغتيال سياسي واغتيال رجال دين وأطفال في منطقة باب التبانة في طرابلس عام 1986، أي أهمية.