حسم زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأميركي ميتش ماكونيل، تردده وأعلن دعم المطالبة بإجراء تحقيقات بالتدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، لينضم إلى أعضاء آخرين في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري دعوا إلى التحقيق بمخاطر التدخّل الروسي وكيفية الرد الأميركي عليه. ومن هؤلاء رموز في المؤسسة الحزبية الجمهورية عُرفوا بمعارضتهم للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، بينهم السيناتور عن أريزونا جون ماكين، والسيناتور عن ساوث كارولينا ليندسي غراهام، إضافة إلى عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو.
وبهذا التذكير يسلّط ترامب الضوء مباشرة على الأدوار "القذرة" التي قامت بها وكالة الاستخبارات الأميركية في التاريخ الحديث وتحوّلها منذ عقود إلى أداة تستخدمها الإدارات الأميركية المتعاقبة لفرض سيطرتها في العالم وشن الحروب وتغيير أنظمة ودعم أخرى حليفة لواشنطن في مختلف قارات العالم، من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية. هذه الأدوار امتدت من إيران في خمسينيات القرن الماضي، عندما أدارت وكالة الاستخبارات المركزية من السفارة الأميركية في طهران مؤامرة الإطاحة بحكومة محمد مصدق وأعادت شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى الحكم، إلى دور الوكالة في دعم الانقلاب العسكري في تشيلي عام 1973 ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور الليندي ودعم ديكتاتورية الجنرال أوغستو بينوشيه.
وذهب السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، أبعد من ذلك باتهامه وكالة الاستخبارات المركزية بأنها أداة سياسية في يد إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، ملمّحاً إلى احتمال ضلوعها في عمليات القرصنة الإلكترونية التي شهدتها الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة خدمة لأهداف أوباما السياسية داخل الحزب الديمقراطي وفي الانتخابات الرئاسية ومن أجل فبركة تهمة دعم موسكو لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
ويبدو أن فريق ترامب يستعد، قبل أسابيع قليلة من تسلّم مفاتيح البيت الأبيض، لخوض مواجهة مفتوحة مع المؤسسات الأمنية الأميركية الأساسية التي أجمعت على وجود أدلة لديها على محاولات روسية للتدخّل في الشأن الانتخابي الأميركي، إلا أنها تختلف في تقييم أهداف هذا التدخّل. فوجهة النظر السائدة في مكتب التحقيقات الفيدرالي لا ترى أن هدف التدخّل الروسي في الانتخابات الأخيرة هو دعم انتخاب ترامب وإنما العبث بالانتخابات والتشكيك بالنظام الانتخابي والديمقراطية الأميركية، فيما يعتبر مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشرف شخصياً على حملة التدخّل الروسية الواسعة انتقاماً من وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي يتهمها بدعم المعارضين الروس في انتخابات 2011 التي شهدتها روسيا.
هذا التباين في وجهات النظر بين مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية، برزت مؤشرات عليه في الأسابيع الأخيرة التي سبقت عملية الاقتراع يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من خلال سلسلة الفضائح التي استهدفت حملة ترامب. وبدا واضحاً وقوف جهاز استخباراتي قوي وراء تسريب وثيقة إلى صحيفة "نيويورك تايمز" حول تهرب ترامب من دفع الضرائب عام 1995، وإلى "واشنطن بوست" شريط الفيديو الذي يتحدث فيه ترامب عن تحرشاته الجنسية بالنساء.
وجاء الرد على تلك التسريبات برسالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، إلى الكونغرس، التي كشف فيها عن استئناف التحقيقات بقضية البريد الإلكتروني لكلينتون، وما تبع ذلك من اتهامات ديمقراطية لكومي بتغليب ولائه للحزب الجمهوري والقيام بدور سياسي وإلحاق ضرر كبير بحملة كلينتون الانتخابية قبل عشرة أيام من يوم الاقتراع. وخلال حملته الانتخابية، اتهم ترامب المؤسسة الأمنية الأميركية بالانصياع الكامل لـ"الاستبلشمنت" في واشنطن، مدرجاً حملة الاتهامات بتدخّل روسيا لصالحه في الانتخابات في سياق مواجهته المفتوحة مع مراكز النفوذ في النظام السياسي الفاسد الحاكم في واشنطن.
إضافة إلى ذلك، فإن ضم الرئيس المنتخب في فريقه الحكومي ثلاثة جنرالات كبار تبوأوا مراكز عسكرية رفيعة في المؤسسة العسكرية خلال حقبة بوش وشاركوا في حربي أفغانستان والعراق ولديهم خبرة ومعلومات دقيقة عن أحداث تلك الحقبة، سيقوي موقف ترامب في مواجهة المؤسسة الأمنية الأميركية، خصوصاً أن لهؤلاء الجنرالات انتقادات وشكوكاً بالاستراتيجيات العسكرية التي اعتُمدت خلال إدارتي بوش وأوباما. وكأن ترامب أراد الاستعانة بهؤلاء الجنرالات في حربه الداخلية ضد "الاستبلشمنت" والمؤسسات الأمنية التابعة لها، وليس لخوض حروب جديدة ضد أعداء الولايات المتحدة في الخارج.