إذا فاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بولاية ثانية في الخريف المقبل، سنعود بالذاكرة إلى هذا الأسبوع الأول من شهر فبراير/شباط الحالي المتخم بالأحداث، والذي تلقى فيه الحزب الديمقراطي نكسات متتالية سيكون من الصعب التعافي منها بسرعة؛ من خسارة محاكمة عزل ترامب في مجلس الشيوخ إلى التخبط المدوي في إدارة التجمعات الانتخابية في ولاية أيوا بوسط غربي البلاد. معالم المعركة الرئاسية بين الليبراليين والمحافظين قد رُسمت بانتظار أن يحسم الديمقراطيون اختلافاتهم حول هوية من سيواجه ترامب في الانتخابات العامة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
كالفاتح المزهو بانتصاراته دخل ترامب إلى الكونغرس الذي ناقش مسألة إخراجه من الحكم على مدى أسبوعين في محاكمة العزل في مجلس الشيوخ. كل الشكليات البروتوكولية لخطاب "حال الاتحاد" عكست مدى حجم الاحتقان في واشنطن والاستقطاب السياسي والإيديولوجي غير المسبوق. ترامب لم يتحدّث مع رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لا سيما أنه غير قادر بعد على تجاوز كيف وضعت وصمة العزل على إرث ولايته الأولى، فيما ترى فيه هي خطراً مستمراً على النظام الأميركي. تفادي ترامب مصافحة بيلوسي وقرار الأخيرة تمزيق نصّ خطابه، يعكسان هذه المعركة الشخصية بين رموز هذا الصراع الإيديولوجي في الولايات المتحدة.
خطاب حال الاتحاد كان إعلان ترامب عن استراتيجية المواجهة الانتخابية في الخريف المقبل التي تركز على تجييش قاعدته الانتخابية وما تمثّل من الرجل الأبيض في الأرياف، مع محاولة تحقيق بعض الخروقات بين الأقليات مثل الأفارقة الأميركيين. تعرج ترامب في خطابه بين اليمين والوسط بسرعة قياسية، وبدون تماسك في الصياغة، في محاولة للموازنة بين إرضاء قاعدته، وإظهار أنه رئيس ببرنامج وسطي، لعدم تخويف المعتدلين والمستقلين من حصوله على ولاية ثانية.
جاء الرئيس إلى الكونغرس لإعلان الحرب الانتخابية، وصفوف الديمقراطيين ليست متراصة، ولا هم جاهزون بعد للمواجهة. جلب معه في هذا الخطاب كل أدوات الحرب الثقافية لتعزيز الانقسام بين اليمين واليسار لصالح معركته الرئاسية. أصبحت محاكمته في الكونغرس محور المعركة الرئاسية الخريف المقبل، أي خيار الأميركيين هو بين عزل ترامب شعبياً أو إبقائه، وليس خياراً بين ترامب ومرشح ديمقراطي يلهم الليبراليين. جعل الرئيس الأميركي من هذه المحاكمة رافعة لتجييش المحافظين في معركة نيله ولاية ثانية، والأهم من ذلك إمساكه المطلق بكل مفاصل الحزب الجمهوري.
يعتقد ترامب، وقد يكون محقاً، أنّ هذه الاستراتيجية تكفي للفوز بولاية ثانية في انتخابات الخريف. بما أنه لا يعرف بعد من سينافسه من الديمقراطيين، حاول تغطية كل السيناريوهات المحتملة وعزّز مرة أخرى فكرة أنه أكثر من يخشى بين المرشحين الديمقراطيين هما جو بايدن نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما، والسيناتور بيرني ساندرز لقدرتهما على منافسته في الولايات المتأرجحة انتخابياً، لا سيما بين الطبقة العاملة.
من جهة أخرى، صورة الديمقراطيين الموازية كانت التخبّط في إدارة انتخابات أيوا، ما أعطى فرصة لترامب والجمهوريين للتهكم، وأظهر مدى هشاشة الحزب الديمقراطي. الضبابية في النتائج كانت فرصة لبايدن الذي احتل المركز الرابع في أيوا، لصرف الأنظار إلى انتخابات ولاية نيو هامبشاير في 11 فبراير/شباط الحالي، لكن أمامه طريقا صعبا، لا سيما أنّ حملته لم تعد تملك ما يكفي من الأموال لضخها في الإعلانات الدعائية في الولايات الكبيرة التي سيقترع فيها الديمقراطيون الشهر المقبل. على عكس ساندرز الذي يعتمد على مساهمات صغيرة من عدد كبير من المتبرعين، لا سيما بين مناصريه الشباب، يعتمد بايدن على مساهمات مالية كبيرة من عدد صغير من النافذين في الحزب الديمقراطي الذين أصبحت لديهم شكوك حيال قدرة نائب الرئيس السابق على الفوز إذا خسر بشكل كبير في نيوهامبشاير كما خسر في أيوا.
المؤشرات التي خرجت من مزاج الناخبين الديمقراطيين في أيوا، وعلى الأرجح في مجمل الولايات المتحدة، هي أنّ همهم الأول هو هزيمة ترامب في الخريف، لكنهم لا يعرفون بعد من هو أفضل مرشح أو مرشحة لإتمام هذه المهمة. أيوا المعروفة بنظامها الانتخابي المثير للجدل، فاجأت الجميع مرة أخرى واختارت عمدة مدينة ساوث باند، بيت بودجيج، ليتصدر التصويت مع ساندرز حتى الآن، وأعطت المرشحة اليسارية إليزابيث وارن في السباق المركز الثالث. لكن التاريخ يقول إن الولاية الثانية في جدول الانتخابات التمهيدية، أي نيو هامبشاير، تفتخر باستقلاليتها وعادة تختار مرشحا آخر غير الذي انتخبته أيوا.
من يستفيد من كل هذه الفوضى الانتخابية هو الملياردير والمرشّح الرئاسي مايكل بلومبرغ، الذي كان يراهن على هذا التخبّط في الولايات الأولى، ليضخّ مبالغ طائلة من أمواله الخاصة في حملات إعلانية مكثفة في ولايات "الثلاثاء الكبير" (تنظم فيه ولايات عدة انتخاباتها التمهيدية) الشهر المقبل، والتي فيها العدد الأكبر من المندوبين. بلومبرغ يراهن على رسالته الانتخابية بأنّ لا أحد بين المرشحين الديمقراطيين قادر على هزيمة ترامب، وأنه أفضل بديل نظراً لثروته وخبرته ومعرفته الشخصية بالرئيس الحالي لأنه كان عمدة مدينة نيويورك الأسبق. القادر على منافسة بلومبرغ حالياً عبر التبرعات المالية هما ساندرز وبوتجيج، فيما يعاني كل من بايدن ووارن في الحصول على الأموال الكافية، لا سيما إذا ما كان أداؤهما ضعيفا في ولاية نيوهامبشاير الأسبوع المقبل.
ترامب حصل على براءة ذمة بدون شهود في محاكمة مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية باستثناء السيناتور الجمهوري ميت رومني الذي صوت ضده، وبالتالي حصل على أقل ما كان يتمناه، لأنّ الرئيس رغب بمعركة تلفزيونية يحضر فيها شخصياً كشاهد لمواجهة متهميه في الكونغرس، لكن زعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش مكونيل، طلب منه التريث وإعطاءه المساحة لإدارة معركة العزل بأقلّ ضرر ممكن. كان لدى ترامب استراتيجية انتخابية فعّالة في خطاب حال الاتحاد، في ظلّ عدم إدانته في مجلس الشيوخ واقتصاد أميركي في ذروته، وكلها مؤشرات يجب أن تقلق الديمقراطيين، في جوّ التخبط الذي يمرون به، ولعلّ تمزيق نصّ خطاب ترامب من قبل بيلوسي كان تعبيراً عن هذا الإحباط الليبرالي. أمام الديمقراطيين أشهر حاسمة لتغيير هذه السردية.