جرت العادة في عائلتنا أن نحتفظ بالملابس التي تضيق أو تقصر أو حتى تبطل موضتها، فنبقيها جانباً حتى يلبسها من هو أنحف أو أقصر، أو من لا يهتمّ كثيراً بما تخطّه أقلام الموضة من أشكال وألوان.
وكانت لملابس الأطفال الحصّة الأكبر في بازار التبادل الأسري، نحتفظ بما بقي مناسباً منها، فنقدمها لأي مولود جديد تنتظره العائلة، وتكون الأساس في جهاز الطفل الذي يتجمع من هنا وهناك، قليله جديد وأكثره مستعمل.
وعدم رمي الملابس عرف من الأعراف المتداولة لدينا، طالما كانت تلك الملابس بحالة جيدة، ولائقة لارتدائها من دون حرج. وعمليات التبادل لا تقتصر فقط على الملابس، بل تتعداها إلى الأحذية والحقائب اليدوية، وأحياناً إلى غطاء طاولة من هنا أو أغطية وسادات ملًت العين من رؤيتها رغم جِدّتها وحسن شكلها.
ولا أنسى حتى اليوم ذلك المعطف السميك الأخضر الذي اشتراه لي والدي، عندما كنت في المدرسة الابتدائية. فرحت به كثيراً وأحببته من أول نظرة. كانت أزراره خضراء كبيرة، وجيوبه تتسع لكفي الصغيرين مع قفازات الصوف.
لم أكن وحدي من حظي يومها بمعطف شتوي سميك، بل إحدى قريباتي أيضاً. لكن استقبالها لمعطفها كان مختلفاً تماماً. اعترضت حينها وبكت، فلم أفهم ردّة فعلها.
رأيتها تبكي بحرقة، وسمعتها تقول إنه يستحيل أن ترتدي معطفاً مستعملاً حتى لو كانت ستموت من البرد.
معطف مستعمل!! بدأ رأسي الصغير يقلّب الفكرة ليحاول فهمها. وعرفت لأوّل مرّة أنّ الحصول على معطف مستعمل أمر يستدعي البكاء والحزن. لم أبكِ، بل على العكس بقيت فرحة بمعطفي، كان بالنسبة لي جديداً، بل هذا ما ظننته وما كان بادياً عليه. إلا أن بكاء قريبتي جعلني أحتفظ بسر معطفي لنفسي. لم أخبر رفيقاتي في المدرسة أو حتى قريباتي عن مصدره. بل أدركت عندها أن الناس تشتري ملابس مستعملة إذا لم يكن بمقدورها شراء الملابس الجديدة.
لا أذكر أن الأمر تكرر معي. أقصد الحصول على ملابس مستعملة أخرى في طفولتي. لكن هذا الموقف جعل الحديث عن الأمر متاحاً. فقد سمعت عمتي تقول لوالدتي إنّ صاحب البالة (حاوية الملابس المستعملة والمستوردة من الخارج) في المنطقة التي تعيش فيها لا يفتح بالَتَه إلا للأغنياء أولاً، يشترون نخبة الملابس والأغطية والستائر بأسعار توفر له ربحاً مجزياً، ثم يعرض ما تبقى منها للعامة من الناس.
وأذكر أن عمّي أيضاً اشترى بالة سجاد باعها خلال فترة الحرب بعد أن هجَر المدينة قسراً إلى القرية، وصار من المتعذر عليه الوصول إلى مقر عمله. لاقى السجاد المستعمل يومها إقبالاً ممن تهجّر بدوره، وكان بحاجة لقطعة سجاد يغطي بها أرض داره الباردة.
مرّت الأيام. وصلت إلى الجامعة وبدأت بالعمل. زادت حاجتي لتجديد ملابسي بشكل مستمر. ما كان سرّاً من أسرار الطفولة، لم يعد كذلك في مرحلة النضوج، فقد استهدينا أنا والقليلات من صديقاتي في العمل إلى عدد من محلات بيع الملابس المستعملة في بيروت وضاحيتها الجنوبية. كنا نغزوها من حين إلى آخر، فنحصل على مبتغانا بنجاح متفاوت بين مرّة وأخرى. حتى إننا في إحدى المرات، وسّعنا دائرة تسوّقنا وقصدنا إحدى البالات في مدينة صيدا الجنوبية، بعد أن وصلتنا أخبار بأن فيها ما يناسبنا ويناسب جيوبنا أيضاً.
ومنذ فترة ليست ببعيدة، كنت في زيارة لإحدى قريباتي، فأخبرتني عن متجر في بيروت يبيع الأواني المنزلية المستعملة، المستوردة من ألمانيا.
لا ضير في ذلك أبداً، فأكثر الدول الأوروبية استقراراً من حيث معيشة سكانها تنشط فيها تجارة الملابس المستعملة مثل السويد مثلاً، والتي تشفي غليل سكان الدول الأفقر في تلك القارة مثل بولندا وبلغاريا.
إلى اليوم لا أجد حرجاً في شراء الملابس المستعملة، فأنا من مناصري مبدأ إعادة التدوير، وبالتالي ليس توفير النقود هو السبب الأوّل، بل سبب بيئي قوّته قناعاتي مع الأيام وتفاعلي مع محيطي. فكما نقبل بتدوير المنتجات الورقية والبلاستيكية وبعض الأقمشة، علينا ببساطة القبول بإعادة تدوير الملابس. من الصعب إقناع الجيل الجديد بهذا، فهل من أمل في إقناعهم بأنّ معطفي الأخضر المستعمل بقي إلى اليوم من أعزّ مقتنياتي، وما كنت لأحبّه أكثر لو كان جديداً "بورقته"، موقّعاً بعلامة تجارية عالمية.
وكانت لملابس الأطفال الحصّة الأكبر في بازار التبادل الأسري، نحتفظ بما بقي مناسباً منها، فنقدمها لأي مولود جديد تنتظره العائلة، وتكون الأساس في جهاز الطفل الذي يتجمع من هنا وهناك، قليله جديد وأكثره مستعمل.
وعدم رمي الملابس عرف من الأعراف المتداولة لدينا، طالما كانت تلك الملابس بحالة جيدة، ولائقة لارتدائها من دون حرج. وعمليات التبادل لا تقتصر فقط على الملابس، بل تتعداها إلى الأحذية والحقائب اليدوية، وأحياناً إلى غطاء طاولة من هنا أو أغطية وسادات ملًت العين من رؤيتها رغم جِدّتها وحسن شكلها.
ولا أنسى حتى اليوم ذلك المعطف السميك الأخضر الذي اشتراه لي والدي، عندما كنت في المدرسة الابتدائية. فرحت به كثيراً وأحببته من أول نظرة. كانت أزراره خضراء كبيرة، وجيوبه تتسع لكفي الصغيرين مع قفازات الصوف.
لم أكن وحدي من حظي يومها بمعطف شتوي سميك، بل إحدى قريباتي أيضاً. لكن استقبالها لمعطفها كان مختلفاً تماماً. اعترضت حينها وبكت، فلم أفهم ردّة فعلها.
رأيتها تبكي بحرقة، وسمعتها تقول إنه يستحيل أن ترتدي معطفاً مستعملاً حتى لو كانت ستموت من البرد.
معطف مستعمل!! بدأ رأسي الصغير يقلّب الفكرة ليحاول فهمها. وعرفت لأوّل مرّة أنّ الحصول على معطف مستعمل أمر يستدعي البكاء والحزن. لم أبكِ، بل على العكس بقيت فرحة بمعطفي، كان بالنسبة لي جديداً، بل هذا ما ظننته وما كان بادياً عليه. إلا أن بكاء قريبتي جعلني أحتفظ بسر معطفي لنفسي. لم أخبر رفيقاتي في المدرسة أو حتى قريباتي عن مصدره. بل أدركت عندها أن الناس تشتري ملابس مستعملة إذا لم يكن بمقدورها شراء الملابس الجديدة.
لا أذكر أن الأمر تكرر معي. أقصد الحصول على ملابس مستعملة أخرى في طفولتي. لكن هذا الموقف جعل الحديث عن الأمر متاحاً. فقد سمعت عمتي تقول لوالدتي إنّ صاحب البالة (حاوية الملابس المستعملة والمستوردة من الخارج) في المنطقة التي تعيش فيها لا يفتح بالَتَه إلا للأغنياء أولاً، يشترون نخبة الملابس والأغطية والستائر بأسعار توفر له ربحاً مجزياً، ثم يعرض ما تبقى منها للعامة من الناس.
وأذكر أن عمّي أيضاً اشترى بالة سجاد باعها خلال فترة الحرب بعد أن هجَر المدينة قسراً إلى القرية، وصار من المتعذر عليه الوصول إلى مقر عمله. لاقى السجاد المستعمل يومها إقبالاً ممن تهجّر بدوره، وكان بحاجة لقطعة سجاد يغطي بها أرض داره الباردة.
مرّت الأيام. وصلت إلى الجامعة وبدأت بالعمل. زادت حاجتي لتجديد ملابسي بشكل مستمر. ما كان سرّاً من أسرار الطفولة، لم يعد كذلك في مرحلة النضوج، فقد استهدينا أنا والقليلات من صديقاتي في العمل إلى عدد من محلات بيع الملابس المستعملة في بيروت وضاحيتها الجنوبية. كنا نغزوها من حين إلى آخر، فنحصل على مبتغانا بنجاح متفاوت بين مرّة وأخرى. حتى إننا في إحدى المرات، وسّعنا دائرة تسوّقنا وقصدنا إحدى البالات في مدينة صيدا الجنوبية، بعد أن وصلتنا أخبار بأن فيها ما يناسبنا ويناسب جيوبنا أيضاً.
ومنذ فترة ليست ببعيدة، كنت في زيارة لإحدى قريباتي، فأخبرتني عن متجر في بيروت يبيع الأواني المنزلية المستعملة، المستوردة من ألمانيا.
لا ضير في ذلك أبداً، فأكثر الدول الأوروبية استقراراً من حيث معيشة سكانها تنشط فيها تجارة الملابس المستعملة مثل السويد مثلاً، والتي تشفي غليل سكان الدول الأفقر في تلك القارة مثل بولندا وبلغاريا.
إلى اليوم لا أجد حرجاً في شراء الملابس المستعملة، فأنا من مناصري مبدأ إعادة التدوير، وبالتالي ليس توفير النقود هو السبب الأوّل، بل سبب بيئي قوّته قناعاتي مع الأيام وتفاعلي مع محيطي. فكما نقبل بتدوير المنتجات الورقية والبلاستيكية وبعض الأقمشة، علينا ببساطة القبول بإعادة تدوير الملابس. من الصعب إقناع الجيل الجديد بهذا، فهل من أمل في إقناعهم بأنّ معطفي الأخضر المستعمل بقي إلى اليوم من أعزّ مقتنياتي، وما كنت لأحبّه أكثر لو كان جديداً "بورقته"، موقّعاً بعلامة تجارية عالمية.