لا يكفّ عن الحديث عن حلم يراوده منذ أعوام، من فرط استعادته لتفاصيله، تخاله أضحى حقيقة ماثلة أمامك. يحلم بفضاء خاص بالدار البيضاء، يؤوي باعة الكُتُب الموزعين على عدد من الأحياء والأسواق بالدار البيضاء.
هكذا يتطلع يوسف بورة، رئيس جمعية الكتبيين في المغرب، إلى فضاء يجمع حوالي أربعين بائع كتاب عرفوا بتوفير الكتب المستعملة بمدينة الدار البيضاء في المغرب.
ذلك سوق لن يكون في تصوره مخصصا فقط لعرض الكتب المستعملة، بل مكانا يغري الأسر بالذهاب إليه. يحلم بمطاعم في ذلك الفضاء وساحات يمارس فيها الأطفال شغبهم الجميل وقاعة للندوات، ومقاه يلتقي فيها عموم الناس والمثقفين. يملك عليه ذلك المشروع تفكيره، ويعقد آمالا
عريضة على تجاوب وزارة الثقافة مع حلمه ذاك.
عندما زارته "العربي الجديد"، بسوق "القريعة" بالدار البيضاء، وجدته منهمكا في تبادل أطراف الحديث مع زبائنه، هذا يسأله عن قيمة كتب يظنها نادرة، وذاك يسأله عن كتاب يبحث عنه، وآخر يأتي إليه فقط كي يتبادل معه أطراف الحديث حول الكتاب.
يعترف المثقفون ليوسف بورة بأنه كان من بين جماعة من باعة الكتب الذين سعوا إلى تنظيم أول معرض للكتاب المستعمل قبل ثماني سنوات. معرض ترعاه جمعية الكتبيين التي يرأسها. ذلك المعرض الذي يمتد على مدى عشرين يوما، بساحة "السراغنة" الشهيرة بحي درب السلطان في الدار البيضاء.
المعرض الذي ستعقد دورته الثامنة في الأيام القليلة المقبلة، يقترح على زواره مئات الكتب في جميع مناحي المعرفة، حيث يسعى، عبر أسعاره التي تعتبر رمزية، إلى تشجيع الشباب والأطفال على القراءة، كما يوضح يوسف بورة.
وكشف المعرض الدولي للكتاب السنوي بالدار البيضاء، الذي عُقد فبراير/شباط الماضي، عن أزمة خانقة تواجه صناعة الكتاب في المغرب، التي يرجع أهم أسبابها إلى ارتفاع أسعار الورق وزيادة سعر الدولار عالمياً وتفاقم عمليات التزييف، ما يدفع كثيرين إلى الكتب المستعملة، حسب خبراء بالصناعة لـ "العربي الجديد".
وحين تسأل يوسف بورة، عن معرض الكتاب المستعمل، ينخرط في حديث طويل عن الجهود التي بُذلت كي يصبح جزءا من أحداث الدار البيضاء، فبعيدا عن كونه فرصة كي يقترب باعة الكتب من زبائنهم من القراء، فهو موعد يتيح إغراء رواده بالاستئناس بالقراءة. يؤمن بورة بأن حرفة الكتبي لن تنقرض، مادام هناك أناس شغوفون بالكتاب، يبحثون عنه ويبذلون من أجله المال.
صحيح أن باعة الكتب أضحوا يميلون إلى الكتاب المدرسي أكثر في الأعوام الأخيرة، التي تدر عليهم إيرادات يواجهون بها تكاليف الحياة اليومية، لكن التعلق بأصناف الكتب الأخرى لم يتراجع كثيرا في رأي بورة، الذي يعتبر أن المهم أن يمتلك بائع الكتب رأسمال يتيح له اقتناء ما يتيسر له من كتب مستعملة وبيعها لمن يسألون عنها، والأهم من ذلك في نظره أن يكون حِرَفيا حقيقيا، لا يأتي إلى الكتب من أجل الربح فقط.
ويرى محمد جليد الإعلامي والمترجم في مقابلة هاتفية مع "العربي الجديد"، أن الحلم الذي يعبر عنه يوسف بورة، قريب من تجارب تعرفها بلدان أخرى. يستحضر جليد سوق الأزبكية بالقاهرة وشارع المتنبي ببغداد، حيث يمكن لكل سائل عن كتاب مستعمل أن يبحث عن بغيته هناك، بل إن الأزبكية وشارع المتنبي، أضحيا فضاءين يلجأ إليهما المثقفون والكتّاب، كما يثيران فضول السياح الذين لا يفوّتون فرصة زيارة هذين السوقين، اللذين أضحيا معلمين سياحيين بارزين في القاهرة وبغداد.
باستثناء معرض "ساحة السراغنة" بالدار البيضاء، لا يوجد في المغرب أية معارض أخرى للكتاب المستعمل أو فضاءات منظمة يقصدها هواة ذلك النوع من الكتب، غير أن هناك العديد
من باعة الكتب الذين تحتفظ بهم أسماء ذاكرة هواة الكتب.
ويتذكر جليد، بائع الكتب حسن، بمدينة فاس، الذي يبذل الكثير من الجهد كي يوفر للطلبة الكتب المستعملة التي يطلبونها.
ويتذكر حسن منعم ــ أحد المثقفين المغاربة ــ بائع الكتب الفرنسي، كلود، الذي كان يعرف ميول زبائنه في القراءة واعتاد مفاجأتهم بكتب يظنون الوصول إليها مستحيلا. هذا الكتبي الفرنسي، الذي غادر المغرب قبل سنوات قليلا، كان يتميز بحرصه على إيصال الكتاب إلى صاحبه، حتى وإن عرض عليه زبون آخر أضعاف الثمن الذي يطلبه. لم يكن كلود استثناءً بين باعة كتب آخرين.
ويقول يوسف بورة، إن الكتاب المستعمل يكون بمثابة ميثاق معنوي يربط البائع بالباحث عن الكتاب، لا يمكنه أن ينكثه، فالأواصر تتجاوز في هذه الحرفة علاقة البائع بالزبون.
اقرأ أيضاً:
أسعار الورق والتزييف يهددان صناعة الكتاب في المغرب