على مدار 57 دقيقة، يحفر فيلم "مُفدي زكريا.. شاعر الثورة الجزائرية" للمخرج الأردني صهيب أبو دولة في سيرة زكريا (1908 – 1977)، متوقّفاً عند أبرز محطّاته الشعرية والنضالية.
هنا كلّ عناصر الفيلم الوثائقي مجتمعةٌ لتصنع عملاً يحاول الإمساك بجوانب من مسار واحدٍ من أبرز شعراء الجزائر المعاصرين: صوتُ زكريا الجهوري وصورٌ وشهادات شخصياتٍ عاصرته أو عرفته عن قرب. تنتقل الكاميرا بين العاصمة ومسقط رأسه، بني يزقن في الجنوب الجزائري، إضافةً إلى مشاهد تمثيلية تعيد رسم لحظات مفصلية في حياة الرجل.
يبدأ العمل، الذي أنتجته وبثّته قناة "الجزيرة الوثائقية" مؤخّراً، بعرض شهادات عن مكانة زكريا الشعرية والنضالية. يقول الكاتب والموسيقي، لمين بشيشي، إنه كان ضمن الأسماء التي تضمّنها كتابٌ صدر سنة 1927 بعنوان "شعراء الجزائر في العصر الحديث". حينها لم يكن عمرُه يتجاوز 19 عاماً. أمّا الباحث والمؤرّخ محمد زغيدي، فيصفه بـ "فراس الحمداني القرن العشرين".
تذهب الكاميرا إلى بني يزقن في غرداية، جنوب الجزائر العاصمة، والتي يقول الباحث في سيرة الشاعر، مصطفى حمّودة، إن "عمر المدينة يمتدّ إلى سبعة قرون". هناك وُلد زكريا ونشأ قرب قصور "مزاب" وبين أزقّتها العريقة. يؤثّث الفيلم هذه المرحلة بمشاهد تمثيلية لكتاتيب بني يزقن وحلقاتها؛ حيث تعلّم القرآن والفقه واللغة.
يُظهر الشريط منزل زكريا في بدايات القرن العشرين، والذي تحوّل اليوم إلى مكتبة. وإذ يُرفق ذلك بصور أرشيفية للشاعر مع عائلته، يشير إلى أن الأوراق والوثائق التي تتحدّث عنه قليلةٌ جدّاً؛ حيث صادرت فرنسا ممتلكاته أكثر من مرة، خلال المداهمات والاعتقالات. هنا يورد العمل معلومة، ربما لا يعرفها كثيرون، وهي أن اسمه الحقيقي هو زكريا بن سليمان بن الشيخ. أمّا مفدي فهو لقب منحه له أحد أصدقائه، ثمّ صار معروفاً به بين الناس.
رغم ذلك، يُحاول العمل الاقتراب من الحياة الخاصّة لزكريا. يورد بأن والده كان تاجراً، وأن والدته رحلت وهو في الثامنة من العمر. يؤكّد حمّودة أن الشاعر "تأثّر - ولا شكّ - برحيل أمّه، لكن ذلك لم يظهر في شعره الذي كان يحرص على إخفاء الجانب الشخصي فيه. شعر مفدي يتحدّث عن قضيّته لا عن شخصه".
حاربت فرنسا، التي دخل احتلالها الجزائر عامها الثمانين حينها، الهوية الجزائرية. انطلاقاً من فكرة "الجزائر فرنسية"، منع الاحتلال تعليم العربية باعتبارها "لغة أجنبية". وسط هذا المناخ، أرسل مشايخ بني مزاب بعثةً علمية إلى تونس، كان زكريا ضمنها. هناك، حيث التحق بعدد من مدارسها، ستبدأ أهمّ مرحلة في حياته، ستساهم في بلورة وعيه السياسي.
كان عمّه الشيخ صالح بن يحيى شخصيةً بارزة في البعثة، وكان بيتُه مقرّاً لاجتماعات قيادات من الحركتين الوطنيتين في تونس والجزائر. كان الحراك السياسي على مرأى ومسمع من الطفل الذي تفتّح ذهنه باكراً على مناهضة الاستعمار.
يبدو أن ذلك الزخم السياسي والأدبي سرّع في "إطلاق مارد الشعر"؛ إذ تُجمع شهادات الفيلم على أن زكريا الشاعر "وُلد في تونس"، وهو ما يؤكّده حمّودة على لسان زكريا نفسه؛ إذ يقول نقلاً عنه "فُطم عقلي في تونس": سنة 1922، ولم يكن قد بلغ 14 عاماً، كتب قصيدة عُثر عليها في ما تبقى من أوراقه، بعنوان "تنبيه النيام من بني الإسلام". بعد ذلك بثلاث سنوات، نشر أول قصيدة له في الصحافة التونسية، قدّمته إلى المشهد المغاربي.
حملت القصيدة عنوان "إلى الريفيين"، تمجيداً لـ "ثورة الريف" في شمال المغرب بقيادة عبد الكريم الخطّابي، ضدّ الاحتلال الإسباني. يعلّق زغيدي: "لم يتنازل عن إيمانه بوحدة المغرب العربي طيلة حياته". هنا، نرى مشهداً لـ "فرقة بني يزقن" وهي تؤدّي قصيدته "سلاماً الى المغرب الأكبر".
بعد عودته إلى الجزائر، عمل في التجارة لفترة قصيرة، لكن فكرة الثورة كانت تنمو في رأسه، فراح يبحث عن فرصة للنضال. في تلك الفترة، ظهر زعيم الحكرة الوطنية الجزائرية، مصالي الحاج، الذي أسّس عام 1926 حزب "نجم شمال إفريقيا"، الذي بلغ ذروته عام 1936، حين نادى لأوّل مرة بالاستقلال.
انضمّ زكريا إلى الحزب وكتب نشيده الرسمي في 1937، بعنوان "فداء الجزائر روحي ومالي"، الذي ردّ فيه على دعاة الاندماج ومجّد فيه الجزائر والحزب ومصالي. بثّت القصيدة شرارة الثورة لدى الجزائريين الذين اعتبروها نشيدهم الوطني الأول، وظلّوا يردّدونها حتّى الخمسينيات.
تتوالى محطّات أخرى من سيرة صاحب "إلياذة الجزائر": حلُّ "حزب شمال أفريقيا" وتأسيس "حزب الشعب" الذي سيصبح أمينه العام وناطقه الرسمي، ثمّ الزج به في سجون الاحتلال؛ حيث يجد نفسه لأول مرة وجهاً لوجه مع فرنسا. مع انطلاق الثورة التحريرية، ينضمّ إليها ويكتب نشيد "قسماً"، قبل أن يُعتقل مجدّداً لثلاث سنواتٍ.
بعد الاستقلال، يرحل زكريا إلى تونس بسبب رفضه للأحادية التي سيطرت على الجزائر بعد الاستقلال. يكتفي الفيلم بهذه الرواية، ولا يورد روايات أخرى يذهب بعضها إلى أن الرئيس الراحل هواري بومدين قام بنفيه.
اقرأ أيضاً: كريم بلقاسم: نصف الحقيقة