02 ابريل 2021
مفكرونا و"الرجل العربي المريض"
بعيداً من سياق القول الأليف. المفكّر العربي اليوم، وفي الإجمال، فقد شجاعة التساؤل والتحدّي والاندغام في الحدث الذي يتهدّده، وبات لا يفتش عن أكثر من مدى لشخصيته يستريح فيه، ويسدّ حاجاته المادية و"المعنوية" فقط، وبأساليب هي غاية في الأنانية والمنفعة والتبلّد. توقف طموحه عند هذه الحدود، والأمور بالنسبة إليه باتت مرشحة للاستمرار في هذا النهج الحياتي الجديد.
بمعنى أعمّ، يمكن القول إن المفكّر العربي استقال من موقعه، واصطنع الفراغ، ليضيف إليه فراغاً لا يكلفه شيئاً. إنه، إذاً، يبدو فاقداً إحساسه بالأشياء وتطوراتها من حواليه، وذلك مهما كانت جذرية ومصيرية، تمسّ حياته وحياة شعبه أو أمته. وموت الحس معناه، في النهاية، أن المرء لا محالة في الطريق إلى الموت الكلي.
وليس البحث في الأسباب هو المطلوب، هنا، إذ هي ليست مجهولة من أحد من المهتمين المتابعين، علاوة على أنها تملأ علينا حياتنا من كل جانب. كما أنه من غير المطلوب أيضاً أن "يركب المفكر رأسه"، ويغرق في معارضة شعاريّة، عشوائية، يستعرض فيها اختياراته في المنفى، وكذلك "أجندة مبادئه" وحروبه الكلامية وتوسّلاته للجماهير.. وغير ذلك من فنون (وأساليب) العيش مع الصوت، تلك التي سقطت جميعاً اليوم، وبحكم الانهيار السريع لصيغ التفكير الشمولي التي عاش عليها العالم زمناً طويلاً.
ما المطلوب إذاً؟ المطلوب، ولا شك، أصعب من أن نرتجله في بضعة سطور؛ ثم إنه لا يزال عسيراً على التوضيح، على الرغم من شفافيته، وقوّة مُثيراته التي تُحفّز الشعور والفكر معاً، إذ فاقت الهجمة المعلنة على العرب والمسلمين، فكراً، وحضارة، وهوية، ومكاناً أو جغرافيا، التصوّرات وحدود المفاهيم، بخاصة بعد مرور 100 سنة على اتفاقية سايكس بيكو، حيث يقال إننا اليوم أمام مرحلة تقسيم، بل تفتيت، جديدة لبلاد العرب والمسلمين، انطلاقاً من استنفار كل هذي "الهويّات الفرعية"، من دينية ومذهبية وقبلية وعشائرية وإتنية، بعضها ضد البعض الآخر.. وكذلك من خلال هذا الاحتراب الأهلي المفتوح، والمتفاوت الدرجات، من ساخنٍ وباردٍ ومضمرٍ وكامن، تقريباً على امتداد مجمل خارطتنا العربية - الإسلامية؟ أكثر من ذلك، كنت سمعت المفكّر والناشط الأميركي، نعوم تشومسكي، في محاضرة له قبل ست سنوات في بيروت، يُحذّر العرب جميعاً من أنهم أمام واقع "حرب مائة عام جديدة"، ما لم يتصدّوا، وقبل فوات الأوان، لوقف تداعيات انهياراتهم المتسارعة، وعلى كل صعيد. كلٌ من موقع مسؤولياته (خصوصاً السياسيين والمفكّرين والمثقفين على اختلاف توجهاتهم وتباين تيّاراتهم السياسية والإيديولوجية). وكذلك كان هنري كيسنجر قد حذّر العرب، وإن على طريقته المشبوهة، من حرب مائة عام جديدة، حاصراً إياها بالصراع الإسلامي السنّي - الشيعي. ومثله برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، الذي صرّح، في زيارته بيروت صيف عام 2014، إن الحروب الطائفية والمذهبية هي ما يهدّد لبنان والمنطقة العربية، ويغرق الجميع في حرب مائة عام ثانية.
وللتوضيح، مصطلح "حرب المائة عام"، والمتداول في الأدبيات السياسية العربية والدولية، مأخوذ من وقائع الحروب التاريخية الدراماتيكية الطويلة التي نشبت بين فرنسا وبريطانيا، ودامت 116 سنة (من عام 1334 إلى 1453)، بداعي ادّعاءات ملوك إنجلترا المتكررة أن فرنسا جزء من أرض جلالة عرشهم الوطني، وفي النهاية، تمّ طرد الجيوش الإنجليزية عن التراب الفرنسي، باستثناء منطقة "كاليه".
إذاً، يبدو أننا في الإرهاصات الأولى لحرب المائة عام العربية، بطلها "الرجل العربي المريض" الذي تُنهش أرضه، ويُستباح تاريخه ومستقبله، وتطاح مقدّراته وطاقاته.. والمفكّر العربي يقف إزاءها، يائساً، مربكاً، عاجزاً، بل مريضاً هو الآخر، ولا يلوي على شيء، حتى أن هذا المفكّر، ومن فرط هامشيته، ولا أباليته، بات متماهياً في المشهد الفوضوي، التدميري والدموي الراعب والمرعب؛ يعزف، هكذا بصمت شاحب، ميلودياه المنذورة للتآكل والبوار.
ومن نافل القول إن ما يجري في دنيانا العربية والإسلامية ليس من أعراض الفجوة التاريخية المكرورة، بين ثقافة العصر وأنظمة التخلف السياسي والاجتماعي فقط. إنه أبعد من ذلك بكثير.. وأخطر من ذلك بكثير. إنه سعي إلى تدمير العرب، بواسطة العرب أنفسهم، وهو أفظع ما يتحصّل لنا من مشهديةٍ في تاريخنا الحديث نحن، كأبناء أمة عربية، ظننا، طوال فترة العقود الستة الأخيرة، أننا نخوض، وبجدية، معركة تحديث شاملة على مستويات حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأنه ستكون لنا الغلبة فيها ولأجيالنا من بعدنا، فإذا بنا في مكان آخر تماماً، نواجه استبداداً يفترسه استبداد أفظع وأفتك، وفي خضمّه بات المفكر يعيش حياة الكوابيس العامة مضاعفةً، حتى صار سيّد كوابيسه وأحزانه. فمن ينقذه، وينقذنا معه إذاً، من هذا الخواء واللامعيارية والعدمية وحروب النكران والجحود والغرائز والعصبيات على أنواعها؟!.. حتى العدم، ومعه بحار الأرض كلها، ما عاد يمنحنا حق اللجوء إليه. كأننا ضحايا بدايات الأزمنة ونهاياتها، فالظلام يُفرَض علينا بوصفه نوراً، والهرطقة بوصفها جوهر الحوار، واللا وعي بوصفه الوعي الحقيقي.
ما المطلوب إذاً؟ نسأل ثانية ونجيب: الوضع أعقد وأصعب من أن نرتجله في بضعة سطور، غير أن ما ينبغي التوكيد عليه، هنا، ومن جانب آخر متصل بجوهر الموضوع، هو ضمير المفكّر العربي أو كرامته، تلك التي لا ينبغي أن تُهان وتُذل وتُبقّع، تحت أي شرط من شروط تعطّل الحياة السياسية العربية، وتحلل قيمها أو فشلها المخيف.
مقطع القول إن السياسة العربية تفقد حتى ما تبقى من نفوذها الوهمي، حين تمعن هي بدورها في الاعتداء على روح المفكر العربي الحر والحقيقي، وتحوّله، بالتالي، إلى مجرد تركة مهملة، أو مضغة لا طائل منها. تخطئ السياسة العربية، أيضاً، في حق ما تبقى من مصالحها هي بالذات، إذا ما أبقت المفكّر الحقيقي بعيداً من المشاركة في رسم مصير الأمة ومستقبلها، خصوصاً في زمن باتت التحدّيات المتلاحقة فيه، لا تترك لأحد مسافة تأمل واختيار.
وبعد، ليست السياسة حلاً للخلافات والأزمات ومواجهة التحدّيات والأخطار فقط، بل هي احتواء لها، وضبط في متطلبات أسمى وأرفع، يمليه طبعاً الظرف الأكثر حراجة وبعداً تاريخياً وخطورة مصير.
بوجيز العبارة، إن مناعة الحال العربية العامة بإزاء التحديات الكبرى والمصيرية، مرتبطة دوماً بصحة عقول مفكرينا، وسيادتهم، وحريتهم النقدية المسؤولة، ووعيهم الفاعل والمتفاعل بالذاكرة الجماعية، من خلال ممثليها الديناميين على كل صعيد.
بمعنى أعمّ، يمكن القول إن المفكّر العربي استقال من موقعه، واصطنع الفراغ، ليضيف إليه فراغاً لا يكلفه شيئاً. إنه، إذاً، يبدو فاقداً إحساسه بالأشياء وتطوراتها من حواليه، وذلك مهما كانت جذرية ومصيرية، تمسّ حياته وحياة شعبه أو أمته. وموت الحس معناه، في النهاية، أن المرء لا محالة في الطريق إلى الموت الكلي.
وليس البحث في الأسباب هو المطلوب، هنا، إذ هي ليست مجهولة من أحد من المهتمين المتابعين، علاوة على أنها تملأ علينا حياتنا من كل جانب. كما أنه من غير المطلوب أيضاً أن "يركب المفكر رأسه"، ويغرق في معارضة شعاريّة، عشوائية، يستعرض فيها اختياراته في المنفى، وكذلك "أجندة مبادئه" وحروبه الكلامية وتوسّلاته للجماهير.. وغير ذلك من فنون (وأساليب) العيش مع الصوت، تلك التي سقطت جميعاً اليوم، وبحكم الانهيار السريع لصيغ التفكير الشمولي التي عاش عليها العالم زمناً طويلاً.
ما المطلوب إذاً؟ المطلوب، ولا شك، أصعب من أن نرتجله في بضعة سطور؛ ثم إنه لا يزال عسيراً على التوضيح، على الرغم من شفافيته، وقوّة مُثيراته التي تُحفّز الشعور والفكر معاً، إذ فاقت الهجمة المعلنة على العرب والمسلمين، فكراً، وحضارة، وهوية، ومكاناً أو جغرافيا، التصوّرات وحدود المفاهيم، بخاصة بعد مرور 100 سنة على اتفاقية سايكس بيكو، حيث يقال إننا اليوم أمام مرحلة تقسيم، بل تفتيت، جديدة لبلاد العرب والمسلمين، انطلاقاً من استنفار كل هذي "الهويّات الفرعية"، من دينية ومذهبية وقبلية وعشائرية وإتنية، بعضها ضد البعض الآخر.. وكذلك من خلال هذا الاحتراب الأهلي المفتوح، والمتفاوت الدرجات، من ساخنٍ وباردٍ ومضمرٍ وكامن، تقريباً على امتداد مجمل خارطتنا العربية - الإسلامية؟ أكثر من ذلك، كنت سمعت المفكّر والناشط الأميركي، نعوم تشومسكي، في محاضرة له قبل ست سنوات في بيروت، يُحذّر العرب جميعاً من أنهم أمام واقع "حرب مائة عام جديدة"، ما لم يتصدّوا، وقبل فوات الأوان، لوقف تداعيات انهياراتهم المتسارعة، وعلى كل صعيد. كلٌ من موقع مسؤولياته (خصوصاً السياسيين والمفكّرين والمثقفين على اختلاف توجهاتهم وتباين تيّاراتهم السياسية والإيديولوجية). وكذلك كان هنري كيسنجر قد حذّر العرب، وإن على طريقته المشبوهة، من حرب مائة عام جديدة، حاصراً إياها بالصراع الإسلامي السنّي - الشيعي. ومثله برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، الذي صرّح، في زيارته بيروت صيف عام 2014، إن الحروب الطائفية والمذهبية هي ما يهدّد لبنان والمنطقة العربية، ويغرق الجميع في حرب مائة عام ثانية.
وللتوضيح، مصطلح "حرب المائة عام"، والمتداول في الأدبيات السياسية العربية والدولية، مأخوذ من وقائع الحروب التاريخية الدراماتيكية الطويلة التي نشبت بين فرنسا وبريطانيا، ودامت 116 سنة (من عام 1334 إلى 1453)، بداعي ادّعاءات ملوك إنجلترا المتكررة أن فرنسا جزء من أرض جلالة عرشهم الوطني، وفي النهاية، تمّ طرد الجيوش الإنجليزية عن التراب الفرنسي، باستثناء منطقة "كاليه".
إذاً، يبدو أننا في الإرهاصات الأولى لحرب المائة عام العربية، بطلها "الرجل العربي المريض" الذي تُنهش أرضه، ويُستباح تاريخه ومستقبله، وتطاح مقدّراته وطاقاته.. والمفكّر العربي يقف إزاءها، يائساً، مربكاً، عاجزاً، بل مريضاً هو الآخر، ولا يلوي على شيء، حتى أن هذا المفكّر، ومن فرط هامشيته، ولا أباليته، بات متماهياً في المشهد الفوضوي، التدميري والدموي الراعب والمرعب؛ يعزف، هكذا بصمت شاحب، ميلودياه المنذورة للتآكل والبوار.
ومن نافل القول إن ما يجري في دنيانا العربية والإسلامية ليس من أعراض الفجوة التاريخية المكرورة، بين ثقافة العصر وأنظمة التخلف السياسي والاجتماعي فقط. إنه أبعد من ذلك بكثير.. وأخطر من ذلك بكثير. إنه سعي إلى تدمير العرب، بواسطة العرب أنفسهم، وهو أفظع ما يتحصّل لنا من مشهديةٍ في تاريخنا الحديث نحن، كأبناء أمة عربية، ظننا، طوال فترة العقود الستة الأخيرة، أننا نخوض، وبجدية، معركة تحديث شاملة على مستويات حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأنه ستكون لنا الغلبة فيها ولأجيالنا من بعدنا، فإذا بنا في مكان آخر تماماً، نواجه استبداداً يفترسه استبداد أفظع وأفتك، وفي خضمّه بات المفكر يعيش حياة الكوابيس العامة مضاعفةً، حتى صار سيّد كوابيسه وأحزانه. فمن ينقذه، وينقذنا معه إذاً، من هذا الخواء واللامعيارية والعدمية وحروب النكران والجحود والغرائز والعصبيات على أنواعها؟!.. حتى العدم، ومعه بحار الأرض كلها، ما عاد يمنحنا حق اللجوء إليه. كأننا ضحايا بدايات الأزمنة ونهاياتها، فالظلام يُفرَض علينا بوصفه نوراً، والهرطقة بوصفها جوهر الحوار، واللا وعي بوصفه الوعي الحقيقي.
ما المطلوب إذاً؟ نسأل ثانية ونجيب: الوضع أعقد وأصعب من أن نرتجله في بضعة سطور، غير أن ما ينبغي التوكيد عليه، هنا، ومن جانب آخر متصل بجوهر الموضوع، هو ضمير المفكّر العربي أو كرامته، تلك التي لا ينبغي أن تُهان وتُذل وتُبقّع، تحت أي شرط من شروط تعطّل الحياة السياسية العربية، وتحلل قيمها أو فشلها المخيف.
مقطع القول إن السياسة العربية تفقد حتى ما تبقى من نفوذها الوهمي، حين تمعن هي بدورها في الاعتداء على روح المفكر العربي الحر والحقيقي، وتحوّله، بالتالي، إلى مجرد تركة مهملة، أو مضغة لا طائل منها. تخطئ السياسة العربية، أيضاً، في حق ما تبقى من مصالحها هي بالذات، إذا ما أبقت المفكّر الحقيقي بعيداً من المشاركة في رسم مصير الأمة ومستقبلها، خصوصاً في زمن باتت التحدّيات المتلاحقة فيه، لا تترك لأحد مسافة تأمل واختيار.
وبعد، ليست السياسة حلاً للخلافات والأزمات ومواجهة التحدّيات والأخطار فقط، بل هي احتواء لها، وضبط في متطلبات أسمى وأرفع، يمليه طبعاً الظرف الأكثر حراجة وبعداً تاريخياً وخطورة مصير.
بوجيز العبارة، إن مناعة الحال العربية العامة بإزاء التحديات الكبرى والمصيرية، مرتبطة دوماً بصحة عقول مفكرينا، وسيادتهم، وحريتهم النقدية المسؤولة، ووعيهم الفاعل والمتفاعل بالذاكرة الجماعية، من خلال ممثليها الديناميين على كل صعيد.