مفهوم السيادة في التطبيع والمُمانعة
اعتدنا الاستماع إلى نشاز محور المقاومة والمُمانعة منذ عقود، ويبدو أننا اليوم يجب أن نُهيئ آذاننا للاستماعِ إلى نشاز محور التطبيع والسلام لعقودٍ مقبلة، وقد طور الاثنان شكلًا فريدًا من السماجة في الخطاب والمواقف. في الحقيقة، كانت المقاومة دائمًا آلة ضخٍ أيديولوجي، وإذا تجاهلنا إنجازاتها في نظم الهتافات والقوافي الرنانة، فإنها لم تفعل شيئًا آخر بقدر ما نالت من مفهوم المواطن، وصولًا إلى تدميره ووأد أي إمكان لتحقيقه، من ثم كانت أيديولوجيا وغطاء لحرق البلد، وتدميره وسرقة أمواله، من دون أن يتنازل أصحابها عن خطاب الصمود والتصدّي دقيقةٍ واحدة!.. هكذا دمَّر محور إيران والنظام السوري كلًا من سورية ولبنان، وأحرقا فيهما الأخضر واليابس، ولكنهما ما زالا صامدين على مقولة "إسرائيل على الأبواب"، ومُصرَيِّن على مقولة "السيادة الوطنية".
ويبدو أننا نشهد اليوم ظاهرةً جديدةً تستند إلى الركائز الذهنية نفسها ولكن في الاتجاه المعاكس، اتجاه التطبيع؛ فقد دشّنت الإمارات والبحرين عصرًا جديدًا من السماجة، وكان أول التوصيفات التي افتتحت فيها خطابات هذا العهد الجديد هو استخدام مفهوم "السيادة" لتوصيف اتفاقهما مع إسرائيل؛ فكلا الدولتين تصفان هذا الاتفاق بـ"السيادي". وفي الحقيقة هنالك مفارقة مضحكة، ولكنها تدعو إلى الأسى، وهي أن السيادة هي أكثر ما يفتقد له هذا "الاتفاق السيادي"، وتلك "المُمانعة السيادية" على حدٍ سواء. ذلك لأن السيادة، كما يفهمها البشر الذين يمتلكون الحد الأدنى من العقل السياسي المدني، مُلكٌ للمواطن. وهو الذي يُمارِسها؛ فالشعب بوصفة مجموعة من مواطنين أحرار، هو فقط صاحب السيادة. وكان محور المقاومة، قبل ذلك، قد أنجز أكبر عملية تعطيل لمفهومات الحرية والدولة والمواطن، ولم يكتفِ هذا المحور بتعطيل مفهوم المواطن، بل قتلته قتلًا، بالمعنى الحرفي وليس المجازي، وما زال مُصرًا ومتمسكًا بشعارات "السيادة".
شنت الإمارات والبحرين عصرًا جديدًا من السماجة، وكان أول التوصيفات التي افتتحت فيها خطابات العهد الجديد استخدام مفهوم "السيادة" لتوصيف اتفاقهما مع إسرائيل!
واليوم لا يمكن أن ننظر إلى اتفاقيتي التطبيع اللتين أبرمتهما كل من الإمارات المتحدة، ومملكة البحرين، مع "إسرائيل"، إلا بوصفهما تدليلًا حقيقيًا على تعطيل سيادة "المواطن" الإماراتي والبحريني في هاتين الدولتين، اللتين تشكلان مثالين أنموذجيين لواحدةٍ من أهم "مضادّات" الدولة/ الأمة، وهي الدولة/ القبيلة. وتعطيل مفهوم المواطن هنا هو تمهيد لقتله المجازي (يمكن أن يصل إلى القتل بالمعنى الحرفي)، بحسب ما تفيدنا به تجارب التاريخ.
وفي وقتٍ استخدمت إسرائيل صفة "التاريخي" لتعظيم الحدث، وأطلقت عليه تسمية "أبراهام" لإعطائه بعدًا دينيًا (ولهذا دلالات كثيرة)، استخدمت كلٌ من الإمارات والبحرين صفة "السيادي" لتوصيف الحدث. وتفيد كلمة "السيادي" هنا التبرير أكثر مما تفيد التوصيف. ولكن يمكن أن نقرأ أن اختيار هذه الصفة يدل في العمق على نقص السيادة اللازمة للمضي في صنع حدث كهذا؛ فالشعبان، الإماراتي والبحريني، "صاحبا السيادة" مُغيَّبان، وتمثيلهما ليس ديمقراطيًا. ومن جهةٍ أخرى تَدل كلمة "سيادي"، على النقيض من دلالة كلمة "أبراهام"، على التجزيء وليس التجميع: أي أنها تستخدم في هذا السياق التبريري لفصل الشعب، في الإمارات والبحرين، عن عمقه الديني والعروبي باسم "السيادة". ولذلك تبقى المفارقة الآتية صالحة: السيادة هي ما يفتقده هذا النوع من الاتفاقيات "السيادية".
السلطة التي تسجن المواطن بسبب انتقاد الملك أو الأمير أو القائد الخالد لا يتيح لها أفقها المتخلف أن تدرك أن المواطن الذي تنتهك حقوقه هو صاحب السيادة
فكرة السيادة مهمة هنا، وتعطي دلالات استخدامها مؤشرًا من مؤشرات قياس التطور السياسي والمدني، وصولًا إلى تكوين صورة مبدئية عن سيادة الشعب وسيادة القانون. وكان الأوروبيون يقولون: نريد أن يكون لنا سيد لكي لا يكون لنا أمير (إقطاعي)... فقد انتقلت السيادة من الشخص إلى الملك الذي يُشرِّع، وعليه أن يطيع القانون الذي يضعه، أي أن السيادة انتقلت إلى المَلكيَّة بالتدريج، وصولًا إلى الملك الذي يملك ولا يحكم لعل تطور مفهوم السيادة من سيادة شخص عياني (الإقطاعي) إلى سيادة شخص عياني رمزي (الملك) ثم إلى شخص رمزي خالص (الدولة) أو الجمهورية، كان ذا أثر مهم في تطور مفهوم المواطنة (citizenship) وحقوق البشر. والمعنى الذي نشهده في استخدام كلمة "سيادي" بتعبيرات الإمارات والبحرين (وسورية ولبنان أيضًا)، يدل على أن مفهوم المواطنة يختنق أو يُحتضر، ولولا ذلك لما تم توقيع اتفاقيتي التطبيع.
وعمومًا، ليس هذا جديدًا، فالسلطة التي تسجن المواطن بسبب تغريدة تعاطف مع إنسان آخر، أو بسبب انتقاد الملك أو الأمير أو القائد الخالد، لا يتيح لها أفقها القبلي المتخلف أن تدرك أن هذا المواطن الذي تنتهك حقوقه هو صاحب السيادة، وصاحب الحق في مساءلتها ومحاسبتها، وأنها تعمل عنده ولأجله. ولهذا السبب، السلطتان، المُطَبِّعة والمُقاوِمَة، لا سيادة لهما بعد أن دمّرتا مفهوم المُواطن بأيديهما.
ذهنية التفكير المتخلفة التي تنتج اتفاقات التطبيع في الخليج تتطابق مع التي كانت تنتج قرارات الحرب لدى الطغم الحاكمة الفاسدة
وثمّة مسألة أخرى لافتة، الخبر الذي استخدمته كلٌ من الإمارات والبحرين، والسابق على صفة السيادي؛ فالأولى قالت على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، إنه "قرارٌ سيادي"، والثانية أخبرتنا بالاتفاق على لسان وزير الداخلية بوصفه "إجراء سيادياً" و"موقفاً شجاعاً"، بحسب تعبيره. وكلمتا "قرار"، و"إجراء" تنفيذيتان، يصلح استخدامها لاتخاذ القرارات المصيرية، ولكن في القبيلة، أو في المزرعة، وليس في الدولة بالتأكيد؛ ففي الدول تكون القرارات المصيرية (كالسلم والحرب) قوانين وتشريعات يُقرّها ممثلو الشعب صاحب السيادة، ويوجهون بتنفيذها، باسم الشعب وبمباركته، ويتم ذلك من خلال نظام تمثيل حقيقي وديمقراطي.
ويبدو أن ذهنية التفكير المتخلفة التي تنتج اتفاقات التطبيع في الخليج اليوم تتطابق مع الذهنية التي كانت تنتج قرارات الحرب التي اتخذتها الطغم الحاكمة الفاسدة، والمليشيات المسلحة، في سورية ومصر ولبنان؛ وهي الذهنية التي يصحّ أن نسميها "ذهنية التفاهة والغباء"، وهي ذهنية الضعف. ستبقى ضعيفة خارجيًا، لأنها ضعيفة وهشّة داخليًا؛ فالاستقواء يكون بالمواطنين، والسياسة الخارجية القوية والناجحة هي انعكاس للسياسة الداخلية المتماسكة والمتقدمة بديمقراطيتها. ومرة أخرى، نجد أنفسنا أمام مفارقة جديدة وغريبة، مفادها بأن الذهنية التي أنتجت "حروب التحرير" البارحة، تتطابق مع الذهنية التي أنتجت "السلام الشجاع" اليوم، ولكن لا الأولى كانت تحريراً، ولا الثانية شجاعة، بل إن الاثنتين من أشكال الهزيمة والنكبة المستمرة، والذل والهوان، ومواقف الجبن والإذعان. وليست هذه الهزيمة إلا هزيمة المواطن في وطنه، والشعب على أرضه.