19 أكتوبر 2019
مكافحة الإرهاب أداة لإدارة الصراعات
يعيش عالم ما بعد الحرب نقلة نوعية في مجال الصراعات والحروب، بظهور نماذج جديدة تتعايش، أحياناً، في النطاق الزماني والمكاني نفسه: صراعات غير متوازية؛ تدخلات مذهبية؛ تهديدات هجينة. ويأتي الإرهاب العابر للأوطان، ليدعم ظاهرة التعقد في عالم اليوم، ليس فقط من حيث تعدد المخاطر والتهديدات الناجمة عنه وتنوعها، وإنما أيضاً من حيث الخلافات التي يتسبب فيها. وتعد المنطقة العربية، وبامتياز، مخبراً لهذه الظواهر المعقدة والتطورية.
رفعت الولايات المتحدة الأميركية مكافحة الإرهاب، بعد عمليات "11سبتمبر" إلى مصاف الهدف الاستراتيجي الأسمى، كرد فعل فوري وقوي لما تعرضت له من هجمات على أراضيها. وبالنظر للفكر المانوي القائم على الصراع بين الخير والشر، فإن الخطاب، ثم السياسة الأميركية، حدد قواعد اللعبة منذ البداية: أميركا تجسد الخير، أما الشر فيجسده ليس الإرهاب فحسب، وإنما من لا يقف إلى جانب أميركا. هكذا قُدست مكافحة الإرهاب، ومعها بعض الأهداف الاستراتيجية الأميركية. لتصبح مكافحة الإرهاب رهان قوة على الساحة العالمية، ومطية لأميركا لتجديد هيمنتها وتحديثها، في ظل غياب مشروع استراتيجي تقدمه الولايات المتحدة للعالم.
ركبت الدولة الأمنية العربية هذه الموجة، خوفاً من رد فعل أميركا وخدمة أيضاً لمصالحها. فوظفت، هي الأخرى، الحملة الدولية على الإرهاب، لشرعنة سياساتها المحلية، وللتضييق أكثر فأكثر على الحريات والمعارضة، بمقتضى حالة الطوارئ التي طال أمدها، فلا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب.
المشكلة أنه، بعد أربع عشرة سنة من إعلان "الحرب على الإرهاب"، التي ساندتها ودعمتها ووظفتها الدولة الأمنية العربية، الإرهاب أقوى من أي وقت مضى. بل تحولت مكافحة الإرهاب إلى صناعةٍ له في المنطقة العربية. إذ كلما زادت حدة عسكرة مكافحة الإرهاب
ودولنتها، استفحلت الظاهرة، وتصلب عود الجماعات الإرهابية، المحلية والعابرة للحدود. ومن ثم يمكن أن نتساءل: ألم تعد محاربة الإرهاب، بنمطها السائد حالياً، هروباً إلى الأمام؟ لا شك في أنها زادت من حدة الظاهرة، ولم تحد منها. صحيح أنها نجحت في مكافحتها في أماكن، لكنها سمحت لها بالاستيطان في أماكن أخرى. فبتدخلها في أفغانستان، حرمت أميركا تنظيم القاعدة من قاعدةٍ جغرافيةٍ يستند إليها، ويحتمي بها، إلا أنها، بغزوها العراق واحتلاله، منحت لتنظيمات إرهابية، بما فيها القاعدة ثم داعش، قاعدة جغرافية أكثر أهمية وحساسية، بالنظر لموقع العراق الجغرافي وتركيبته المذهبية.
على الرغم من هذه الانتكاسة الأمنية، واصلت أميركا سياستها القائمة على اعتبار محاربة الإرهاب رهان قوة عالمياً. ومع مرور الوقت واستفحال الظاهرة، تراجعت محاربة الإرهاب هدفاً لتصبح وسيلة لممارسة السياسة ومواصلة التنافس بوسائل أخرى. وهذا ما يحدث الآن في سورية، حيث جعلت القوى المتدخلة من مكافحة الإرهاب أداة لإدارة الصراع، ليس فقط بين الأطراف السورية المتناحرة. ولكن، بينها أيضاً. ونظراً إلى تقديس محاربة الإرهاب، فلا أحد يجرؤ على تدنيسها أو التفريط فيها، لأنه يكفي مجرد التفوه بها لشرعنة كل صغيرة وكبيرة، وكأنها عبارة سحرية، لا يقوى أحد على مناقشتها أو التشكيك فيها. فالمنطق السائد هو منطق المفاضلات الذي يحرم فيه الخيار الثالث.
فأميركا وحلفاؤها من الغربيين والعرب يقولون إنهم يكافحون الإرهاب في سورية، لكنهم، في الواقع، يساعدون الثوار ضد نظام الأسد. أما روسيا فتقول، هي الأخرى، بمحاربة الإرهاب، لكنها تساعد النظام ضد الثوار. من هذا المنظور، يمكن أن نضع الفرضية التالية: ليس في مصلحة الطرفين القضاء على الإرهاب، على الأقل في الراهن، ما دام يُستخدم مطية لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية في سورية.
وبما أن الجماعات الإرهابية تسعى إلى توريط القوى الخارجية، لاسيما الغربية، في الصراع في العراق وسورية، في ظل فشل الدولة في البلدين، فإن مكافحة الإرهاب، بالشكل الحالي، تخدم مصالحها، لأن التدخل سيجعلها تدعم صفوفها بمزيد من المقاتلين. وبالتالي، ستعرف نشاطاتها تصعيداً تتخذه القوى المتدخلة ذريعة جديدة لتبرير موقفها. لذا، استعمال مكافحة الإرهاب أداة لإدارة الصراع، لاسيما في سورية، مرشح للاستمرار في ظل التنافس الغربي-الروسي على البلاد، وعجز الطرفين المتناحرين، النظام والمعارضة المسلحة، على حسم الصراع ميدانياً. طرفان يستفيدان، بالطبع، من محاربة الإرهاب، لأنها تسمح لحلفائهما بمساعدتهما. إذن، للجميع مصلحة في استمرار داعش ونظيراتها، ما لم يحقق كل طرف أهدافه، أو على الأقل بعضها. المشكلة في من يستفيد أكثر من وجودها، ومن أول من يقطف ثمار محاربتها.
رفعت الولايات المتحدة الأميركية مكافحة الإرهاب، بعد عمليات "11سبتمبر" إلى مصاف الهدف الاستراتيجي الأسمى، كرد فعل فوري وقوي لما تعرضت له من هجمات على أراضيها. وبالنظر للفكر المانوي القائم على الصراع بين الخير والشر، فإن الخطاب، ثم السياسة الأميركية، حدد قواعد اللعبة منذ البداية: أميركا تجسد الخير، أما الشر فيجسده ليس الإرهاب فحسب، وإنما من لا يقف إلى جانب أميركا. هكذا قُدست مكافحة الإرهاب، ومعها بعض الأهداف الاستراتيجية الأميركية. لتصبح مكافحة الإرهاب رهان قوة على الساحة العالمية، ومطية لأميركا لتجديد هيمنتها وتحديثها، في ظل غياب مشروع استراتيجي تقدمه الولايات المتحدة للعالم.
ركبت الدولة الأمنية العربية هذه الموجة، خوفاً من رد فعل أميركا وخدمة أيضاً لمصالحها. فوظفت، هي الأخرى، الحملة الدولية على الإرهاب، لشرعنة سياساتها المحلية، وللتضييق أكثر فأكثر على الحريات والمعارضة، بمقتضى حالة الطوارئ التي طال أمدها، فلا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب.
المشكلة أنه، بعد أربع عشرة سنة من إعلان "الحرب على الإرهاب"، التي ساندتها ودعمتها ووظفتها الدولة الأمنية العربية، الإرهاب أقوى من أي وقت مضى. بل تحولت مكافحة الإرهاب إلى صناعةٍ له في المنطقة العربية. إذ كلما زادت حدة عسكرة مكافحة الإرهاب
على الرغم من هذه الانتكاسة الأمنية، واصلت أميركا سياستها القائمة على اعتبار محاربة الإرهاب رهان قوة عالمياً. ومع مرور الوقت واستفحال الظاهرة، تراجعت محاربة الإرهاب هدفاً لتصبح وسيلة لممارسة السياسة ومواصلة التنافس بوسائل أخرى. وهذا ما يحدث الآن في سورية، حيث جعلت القوى المتدخلة من مكافحة الإرهاب أداة لإدارة الصراع، ليس فقط بين الأطراف السورية المتناحرة. ولكن، بينها أيضاً. ونظراً إلى تقديس محاربة الإرهاب، فلا أحد يجرؤ على تدنيسها أو التفريط فيها، لأنه يكفي مجرد التفوه بها لشرعنة كل صغيرة وكبيرة، وكأنها عبارة سحرية، لا يقوى أحد على مناقشتها أو التشكيك فيها. فالمنطق السائد هو منطق المفاضلات الذي يحرم فيه الخيار الثالث.
فأميركا وحلفاؤها من الغربيين والعرب يقولون إنهم يكافحون الإرهاب في سورية، لكنهم، في الواقع، يساعدون الثوار ضد نظام الأسد. أما روسيا فتقول، هي الأخرى، بمحاربة الإرهاب، لكنها تساعد النظام ضد الثوار. من هذا المنظور، يمكن أن نضع الفرضية التالية: ليس في مصلحة الطرفين القضاء على الإرهاب، على الأقل في الراهن، ما دام يُستخدم مطية لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية في سورية.
وبما أن الجماعات الإرهابية تسعى إلى توريط القوى الخارجية، لاسيما الغربية، في الصراع في العراق وسورية، في ظل فشل الدولة في البلدين، فإن مكافحة الإرهاب، بالشكل الحالي، تخدم مصالحها، لأن التدخل سيجعلها تدعم صفوفها بمزيد من المقاتلين. وبالتالي، ستعرف نشاطاتها تصعيداً تتخذه القوى المتدخلة ذريعة جديدة لتبرير موقفها. لذا، استعمال مكافحة الإرهاب أداة لإدارة الصراع، لاسيما في سورية، مرشح للاستمرار في ظل التنافس الغربي-الروسي على البلاد، وعجز الطرفين المتناحرين، النظام والمعارضة المسلحة، على حسم الصراع ميدانياً. طرفان يستفيدان، بالطبع، من محاربة الإرهاب، لأنها تسمح لحلفائهما بمساعدتهما. إذن، للجميع مصلحة في استمرار داعش ونظيراتها، ما لم يحقق كل طرف أهدافه، أو على الأقل بعضها. المشكلة في من يستفيد أكثر من وجودها، ومن أول من يقطف ثمار محاربتها.