منسيّون بشّروا بمشروعنا القومي

19 يونيو 2019

جميل مردم وعوني عبد الهادي وعبد الغني العريسي

+ الخط -
تتملكك خيبة الأمل، وأنت تقرأ ملفات عتيقة عن عربٍ كان عندهم انشغالٌ مبكر بالعروبة، نشطوا أواخر الحقبة العثمانية، وانتظموا في أكثر من مؤتمر وتجمع، ليتوافقوا على هويتهم الواحدة إذ جمعتهم "وحدة أمة، ووحدة لغة، ووحدة عنصر، ووحدة تاريخ، ووحدة عادات، ووحدة مطمح سياسي"، وهذا ما ثبتوه في مؤتمرهم الأول الذي شهدته باريس في مثل هذه الأيام قبل مئة وستة أعوام، ولم يهضموا التمييز الذي كان ماثلاً ضدهم لأنهم عرب. وفي حسابات التاريخ الحديث، يمثل أولئك الرواد ما يمكن اعتبارها أولى إرهاصاتٍ لنهوض عربي جاء لاحقاً، وطروحات مبكرة لما اجتهده آخرون، عندما حاولوا صياغة مشروع قومي، حمل الأفكار الأولى نفسها معبّراً عن تطلعات أمة وطموحاتها. 
أظن أن استذكار أولئك الأوائل والاحتفاء بهم يصبح واجباً على أناسٍ مثلنا آمنوا بهوية عربية موحّدة (بكسر الحاء)، وعملوا في حركاتٍ وتنظيماتٍ كانت امتدادا عمليا لتلك المؤتمرات والتجمعات، ودافعوا عن تجارب رأوا فيها بعض الأمل، وجاهدوا لأن يتحقق شيءٌ مما آمنوا به وعملوا له، لكنهم افتقدوا البوصلة التي تعينهم على تلمس الطريق، وكان أن تكسّرت النصال على النصال، وتكسّرت معها الآمال أيضاً، وتعرّض المشروع القومي المأمول للانكفاء على يد أنصاره، قبل أن ينكفئ بفعل أيادي خصومه.
لا بأس في هذا الاستذكار الموجع أن يُشار إلى أسماء كانت معلومة، ودخلت التاريخ على قدر 
من السّعة والرواج، ثم تقلصت مساحة التذكير بها حتى اختفت، وأظن أن من بعض أسباب اختفائها يكمن في محاولة من تزعّم الحركات والمنظمات والمؤتمرات القومية اللاحقة، أو حتى من قاد تجارب السلطة، ورفع الشعارات القومية ذاتها التي جاء بها أولئك الرواد، أن يحتكر المشهد القومي له، ويغتصب المجد لنفسه، قاطعا صلة الرحم بمن سبقه.
من بين تلك الأسماء عبد الغني العريسي، ومحمد محمصاني، وشارل دباس، وشكري غانم، وندرة مطران، وجميل معلوف، وتوفيق فايد، وعوني عبدالهادي، وجميل مردم، وآزرهم ناشطون آخرون، وصل عددهم إلى بضع مئات، وقد حدّدوا هدفهم بالبحث عن التدابير الواجب اتخاذها "لوقاية الأرض (العربية) من عادية الأجانب، وإنقاذها من صبغة التسيطر والاستبداد"، وأول مطالبهم كانت "اللامركزية، وحقوق العرب في الدولة العثمانية، وموضوع الحياة الوطنية، ومناهضة الاحتلال، وضرورة الإصلاح"، ولم ينسوا الإشارة إلى موضوع "الهجرة اليهودية إلى البلاد السورية (فلسطين)"، على أن واحدةً من نقاط الاتفاق الرئيسة كانت في تثبيت "أن المؤتمر ليست له صفة دينية، وأن عدد المسلمين والمسيحيين متساو فيه، دلالة الاتحاد بين المسلمين والمسيحيين".
وإذ اعترض بعضهم على عقد المؤتمر في باريس، باعتبار أن الدولة الفرنسية المضيفة قد تفرض ضغوطها عليهم، فإن شطارة الباقين كسحت هذا المنطق، وبلورت أملاً كان مختزناً في النفوس، لتحوله إلى صيغة عمل، امتد إلى أكثر من مكان، وشمل غير قطاع، حتى أثمر في ما بعد فعالياتٍ أكثر قوة وتأثيرا، سوف نلاحظه في سنوات نهايات الحرب الأولى التي كانت القضية العربية واحدة من أبرز القضايا التي كان على المنتصرين أن يهتموا بالبحث فيها.
ولا بأس أن نذكر بالخير هنا أولئك الرجال الذين ظهروا في الأربعينات والخمسينات، وعدّوا امتدادا لرجال مؤتمر باريس، وإن أخفق بعضهم في تحقيق ما كان يهدف إليه، وتنكّب بعضٌ آخر الطريق، عندما واجهته مغريات السلطة ومغانمها: ميشيل عفلق وصلاح البيطار في تبشيرهما ببعث الأمة، وزكي الأرسوزي في كشفه شخصيتها، وساطع الحصري في تأكيده على لغتها، وجمال عبد الناصر في مسيرته باتجاه وحدتها وحريتها، وكذلك رجال حزب الاستقلال في العراق، وآخرين في بلاد المغرب، ورجال الجيل الثاني في "بعث" سورية والعراق.
ومن عجبٍ أننا، وبعد أكثر من مائة عام، لا نزال نبحث في "التدابير الواجب اتخاذها لوقاية الأرض (العربية) من عاديات الأجانب، وإنقاذها من صبغة التسيطر والاستبداد". ولذلك يصبح هذا الإيجاز لتاريخ أولئك الرواد، والسعي إلى إيقاظ مآثرهم في الذهن، مطلوبين اليوم، وخصوصا أن المشهد العربي الماثل يكاد يبدّد الأمل في فعلٍ يوحد بين أقطار الأمة التي تكاد تتهاوى على وقع النزعات الطائفية والعنصرية، وتكاد تفقد حتى لغتها التي اعتمدها الحصري أحد مقومات الأمة، وأكاد أقول حتى تاريخها الذي يواجه الطعنات من كل جانب إلى درجة أن تلصق به كل المثالب والخطايا. أما الجغرافيا، فيكفي أن تشهد عيوننا حالة الاستلاب والتمزّق الماثلة على امتداد الوطن الذي لم يعد كبيرا، كما كنا نحلم ونتصوّر.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"