يذكر عيد الشهداء الذي تحييه تونس في التاسع من إبريل من كل سنة احتفاء بذكرى سقوط 22 شهيداً سنة 1938 إبان احتجاجات جماهيرية ضد القمع الفرنسي، بأن جراح الاستعمار لم تندمل بعد، طالما لم تطو الصفحة باعتراف المستعمر الفرنسي بجرائمه واعتذاره عما اقترفه.
وفي حين صمتت الدولة عن المطالبة بالحق في الاعتراف والاعتذار، انطلقت شخصيات وطنية ومنظمات في خوض هذا المسار نحو إجبار فرنسا على ذلك.
وظلت المطالبات بالاعتراف في تونس خافتة وقليلة، فيما خاضت جارتها الجزائر تحركات من الدولة والصحافة وعائلات المجاهدين لدفع فرنسا للاعتذار. وجاءت آخر المطالبات على لسان وزير قدماء المحاربين في الجزائر الطيب زيتوني الذي أكد في تصريح صحافي في ديسمبر/ كانون الأول 2017 أن العلاقات لن تكون طبيعية بين البلدين ولا حسنة طالما لم تعترف فرنسا بجرائم الاستعمار.
واقتلعت الجزائر في أكثر من مناسبة اعترافات فرنسية بوحشية الجرائم، إذ وصفها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي سنة 2007 بالسنوات القاتمة، متعللاً بأن الندم "فعل ديني لا وجود له في الأعراف الدبلوماسية التي تؤسس للصداقة وطي الصفحة"، فيما صرح الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون خلال حملته للرئاسيات بأن الاحتلال الفرنسي في الجزائر اقترف جرائم ضد الإنسانية، وأردف ذلك باعتذار عن جرائم التعذيب.
وإن لم تقدم فرنسا للجزائر غير تصريحات محتشمة في هذا الصدد، فإنها قطعاً لم تخط أي خطوة في هذا الاتجاه مع الجانب التونسي الذي صمت منذ الاستقلال عن المطالبة بهذا الحق، وسرعان ما تحولت فرنسا المستعمرة إلى شريك اقتصادي وبلد صديق من دون جهد للمصالحة التاريخية مع الشعب التونسي.
وأمام الصمت الرسمي، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة "حشاد" التي يرأسها نور الدين حشاد، نجل الزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد، انطلقت في مسار دفع فرنسا للاعتراف وتسليم وثائق وأرشيف الاستعمار إلى المؤرخين التونسيين.
وقال الأمين العام المساعد للاتحاد بوعلي المباركي في تصريح صحافي الثلاثاء، إن فرنسا مطالبة بالاعتذار عن سنوات الاستعمار. وأضاف أن الاحتلال الفرنسي "نهب ثروات البلاد وقتل آلاف التونسيين وعذب ونكل وسجن الآلاف أيضاً، ولم يقدم إلى اليوم اعتذاراً للشعب التونسي كما لم يعوضه على نهب ثرواته التي بنى بها رخاءه وتقدمه".
وذكر المباركي أن أعداداً من المقاومين التونسيين الذين وقع نفيهم أو إخفاؤهم قسراً لا يعلم التونسيون مآلهم ولم تقدم فرنسا الأرشيف المتعلق بالاستعمار. وأكد في هذا السياق أن الاتحاد معني بهذا الملف ويطالب بفتحه وتقديم الوثائق والاعتراف والاعتذار.
من جانبه، بيّن نور الدين حشاد لـ"العربي الجديد" أن فرنسا "إضافة لكل جرائم الاستعمار التي اقترفتها في تونس، عمدت لإفراغ المؤسسات من كل الوثائق والأرشيف قبل سحب قواتها من تونس، وهو ما يعد نهباً للذاكرة وسطواً على تاريخ شعب بأكمله"، على حد تعبيره.
وشدد حشاد على أن نجاحه في مسار جلب الوثائق المتعلقة بملف اغتيال والده فرحات حشاد بعد أربعة عقود قضاها يعمل على ذلك، دفعه إلى عدم التوقف عند هذا الملف وإنما النضال من أجل إنصاف جميع شهداء المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، موضحاً أن الأمر لا يتعلّق بتعويض مادي، "فما اقترفه المستعمر لا يمكن تعويضه نقداً، بل يكون عبر الاعتراف بالجرائم أولاً وتسليم الوثائق من أجل حفظ الذاكرة الوطنية".
ولا يزال حشاد الابن يعتبر فرنسا دولة عدوة، مؤكداً أنه من "الصفاقة أن تتعامل فرنسا وكأنها صديقة التونسيين وهي التي أزهقت أرواحاً واعتقلت ونفت وعذبت ونهبت خيرات البلاد وسلبت جزءاً من ذاكرتها".
وأرجع حشاد في حديثه لـ"العربي الجديد" هذا التعاطي إلى "إشكال حقيقي داخل المجتمع الفرنسي الذي لم يستوعب بعد أنه عليه أن يتوقف عن تمجيد تاريخه الاستعماري احتراماً للإنسانية، فبينما اعتذرت جل القوى الاستعمارية عن جرائمها وسنّت قوانين تعترف فيها بذلك لا يزال الفرنسيون يحيون ذكرى غزواتهم، بل اقترحوا قانوناً سنة 2005 لتمجيد الاستعمار" (قانون حول "الدور الإيجابي للوجود الفرنسي فيما وراء البحار، وخصوصاً في شمال أفريقيا"، والذي صادق عليه البرلمان الفرنسي في 23 فبراير/ شباط. اعترض عليه الرئيس الفرنسي جاك شيراك) وهو ما يتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان وقيم الإنسانية".
ودعا حشاد النيابة العمومية التونسية ووزارة العدل إلى التحرك في هذا الصدد، مبرزاً أنه من حق القضاء التونسي أن يتولّى إثارة القضايا المتعلقة بالاستعمار وأن يطالب بإعادة الأرشيف والتعويض لعائلات المقاومين.