من الحزب إلى المليشيا.. الحرب مجدّدا

03 نوفمبر 2017
+ الخط -
بعد قرونٍ من حروبٍ أهليةٍ، تنافست فيها النخب عبر الجيوش، توصلت شعوب إلى وضع حد نهائي للحرب، عبر التنافس من خلال الأحزاب السياسية. خضعت الجيوش الموحدة في مؤسسةٍ مركزيةٍ لسيطرة الجسم التمثيلي، وأصبح النظام السياسي الراسخ والمستقر للأحزاب البديل المؤسسي الأكثر فاعلية للحرب.
خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أتاح انحسارٌ للإقطاع في أوروبا نموا للمدن بشريا ومهنيا، وشكل أفرادٌ ذوو مصالح مشتركة جمعياتٍ مهنية، غايتها الحفاظ على هذه المصالح ضد سيطرة حكومة المدينة، أو سياسة المنافسات والاحتكارات الظالمة. شمل هذا الميل إلى التنظيم المهني (النقابات) عامة الناس، وبدأت الجمعيات طوعية، ونالت حقوقا قانونية، فرضت من خلالها إرادتها على حكومات المدن. وبالإضافة إلى جانبيها، الديني والأخوي، تمتع أعضاء النقابات بحقوق متكافئة، وضمانات متساوية.
بات المنشأ الجماعي التكاملي للنقابات مصدر التحولات السياسية في المجتمعات الأوروبية حتى الثورة الفرنسية. ولكن حتى القرن التاسع عشر لم تكن الأحزاب معروفةً إلا في الولايات المتحدة وإنكلترا، وكانت ذات منشأ داخلي، نتيجة تنظيم أعضاء البرلمان والناخبين أنفسهم، وتكتلهم في تحالفاتٍ لتحقيق غايات معينة.
جلب الربيع الأوروبي (1848م) معه تنظيم الأحزاب الجماهيرية في فرنسا وبلدان أخرى، 
وغلب الطابع الخارجي على نشأتها (نشاط مؤسسات قائمة من خارج البرلمان: النقابات، الكنيسة، الجماعات الدينية، الجمعيات السرية...). وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتشرت الأحزاب في باقي بلدان آسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا، وظلت في معظم الحالات تجمعات أوليغارية (أقلية) ببنىً مؤسسيةٍ هشّة. لاحقا، أضاف التعاون بين الأحزاب الماركسية، العابر للحدود الوطنية، بعدا جديدا لعملية تطور الأحزاب.
في الدولة الديمقراطية، لا يستبعد نظام الأحزاب الدولة بصفتها سلطة، لكنه يفترضها للعمل بشكل سليم. وعلى الرغم من أن ذلك لا يعني انتهاء المنافسة بين ممثلي مختلف المجموعات الاجتماعية، إلا أن الصراع على السلطة يصبح أقل أهميةً مما تفعله هذه السلطة، مهما كان لونها السياسي. وما نسميه استقرارا اجتماعيا ليس سوى توازن في القوى، إنها إضدادٌ تتصارع لتجديد النظام، لا لتدميره.
في المجتمعات التي تكون فيها المؤسسات التمثيلية شاملة، تتمرّس النخب في مهارات الدفاع، والعمليات القانونية، والسمسرة السياسية، وتمتلك قدرةً على إيجاد أحزاب ائتلافية، تستطيع جذب المصالح الجماعية المتغيرة، وتحوز إجماع الغالبية. أما في ظل المؤسسة العسكرية، فتتمرس النخب في أشكال التنظيم الهرمي وسلطوي الطابع، ومع قيادة سياسية يحتكرها الجيش، تبقى المؤسسات التمثيلية ضعيفةً، وتسود أنظمة الحزب الواحد السلطوية. وفي ظل هذه التوتاليتاريا، ليست الدولة رهانا في عملية تنافس بين طرقٍ متنوعةٍ لتصور النظام السياسي الاجتماعي المنشود، بل أداة سياسية خاضعة للحزب الواحد، في دولة مُحازبة.
لم تتشكل المؤسسات التمثيلية الليبرالية في العالم العربي نتيجة تطور ذاتي، بقدر نموها تحت شروط الهيمنة الاستعمارية، بوصفها هيئةً وطنيةً تمثيلية، تتوسط ما بين المستعمر والأهالي. وتشكلت الأحزاب العربية تحت الانتداب من منشأ خارجي، حملت الفكرة القومية ضد السلطنة العثمانية، ثم مطلب الاستقلال، مع بهتان محتواها الاجتماعي، وطغيان عامل التحرر الوطني.
لم تستطع النخب الوطنية الموصوفة بالتقدمية الوصول إلى السلطة عبر الجماهير، بل عبر انقلاباتٍ عسكرية. وسرعان ما توجست العسكرتاريا العربية من المكونات العشائرية والقبلية والطائفية، فرفضت التشكيل الحزبي التعدّدي على أساس الاختلافات في المشاريع الوطنية والمضامين الأيديولوجية، ووضعت التعدّدية في سلة "المشاريع الانفصالية"، ونظرت إلى الأقليات معوّقاتٍ للوحدة، أو طابوراً خامساً، لا سيما حين تتوفر امتداداتٌ لها خارج الحدود.
فُرِضَت الواحدية الحزبية تحت عنوان "الشرعية الثورية" التي ادّعت تلك النخب حيازتها لتبرير احتكارها السلطة، وحجبت وعيا بالتعدّدية السياسية من منظومتها التربوية، ولم تكن العلمانية الموظفة سياسياً، والتي أسبلت على القومية العربية ومشروعات الوحدة، سوى واجهة لمجتمعات تقليدية غارقة في الانقسام والتقوقع على الذات، يسودها الاعتقاد بالخلاص الفردي على حساب الخلاص الجماعي.
مع خنق التعدّدية واحتكار المجال السياسي العام، تشكلت الأحزاب العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، إما نتيجة لظاهرة التمرّد على نظام الحزب الواحد، أو نتيجة محاولات السلطة الحاكمة احتواء تلك التمرّدات بأحزاب شكلية، أو دمج الأحزاب القائمة بجبهاتٍ وطنيةٍ مُوجّهة ومُسيطر عليها، لتبقى تلك التشكيلات الحزبية تابعة سياسيا وماديا من دون مشروع للدولة.
اكتفت الأحزاب التي عملت في السر بنقاشات الغرف المغلقة، واللقاءات بين العناصر المُشكِّلة لها بشريا، التي لم ترق إلى قاعدة جماهيرية، ودُكّت مبكرا في السجون قبل قدرتها على ممارسة فعل سياسي معارض، يُلقي بثقله على الحياة السياسية. أما الأحزاب والجبهات الحزبية المُشكَّلة من السلطة، فمارست السياسة وسيلةً لتحصيل المغانم، لتتحول إلى أدواتٍ لتبرير الحكم القائم. وفي غياب مجتمع مدني، وهيمنة الانقسامات العمودية على مجمل الانقسامات السياسية، بقيت الأحزاب العربية امتدادا للمصالح الخاصة، والعشائرية، والنخبوية المتزمتة.
مع عدم توفر فائض للممارسة السياسية باعتبارها حقا عاما، انصرف الثقل السياسي نحو استثمار ما هو غير سياسي، فأصبح الدين بديلا سياسيا، وتحولت الحركات الاجتماعية حركات انشقاق عرقية أو طائفية أو عقائدية. وفي غياب تقاليد ديمقراطية، وتداول سلمي للسلطة، غُيِّبَت المعارضة، أو عَجِزت عن تقديم تيار سياسي عام ذي قاعدة تمثيلية واسعة، فأصبحت المجتمعات مولدة للعنف بوصفها بديلا متاحا، للتغيير (المعارضة)، وأيضا للحفاظ على الوضع القائم (السلطة الحاكمة).
غابت الهيكلية السياسية التي توفر المحمولات الدستورية والقانونية للمواطنة الحقيقية، فلم تتوفر 
الفرص لبناء مجتمع تعاقدي، يضمن حقوق الأفراد، ولا لوطن يتسع للجميع. بل على العكس، أدى استثمار الطائفية ورقة سياسية بيد الأنظمة، لتكريس سلطتها على حساب المجتمع والمواطن، إلى اختلال التوازنات، وتعميق الصراع بين الانتماءين، الوطني والفرعي (الطائفي)، ما أفضى إلى أزمة هويةٍ سياسيةٍ لمختلف الجماعات ضمن الدولة الواحدة. وكانت الطائفية أزمةً في هيكلية النظام السياسي العربي الذي حوّل الدولة إلى طائفةٍ، في مواجهة الطوائف الأخرى، وحال دون إفساح المجال للأقليات لإبراز خصوصياتها الثقافية حقوقياً ودستورياً، وصياغة واقعها الخاص.
مع صحوة الأقليات منذ مطلع التسعينيات، ثبت أن مصير الكيانات التي تأسست على الوحدة القسرية هو التشظي، فغياب الاندماج الطوعي للأقليات في المشروعين، الوطني والقومي، حال دون سحب البساط من تحت أقدام المعارضة المتطرّفة في أوساطها، بينما وفّر خنق التعدّدية الفرصة لتبرير النزعات الانفصالية، وتدخل القوى الأجنبية التي تدعي مسؤوليتها الأخلاقية عن حماية الاقليات، في الشأن الداخلي بمختلف الوسائل السياسية والعسكرية.
لم تعد المعارضة، منذ العام 2011، قصرا على جماعات فرعية، بل تحولت إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ جماهيرية واسعة، لكن من دون رأس حزبي يقودها. ومع غياب المشروع السياسي، وتوفر البدائل غير السياسية، بدت مطالب الاحتجاجات الاجتماعية ضبابية، سرعان ما توارت خلف المطالب الفئوية، والمصالح الشخصية، والنزعات الانفصالية، والأصوليات الدينية، والانتهازية السياسية، والثورات المضادة.. استحالت تلك الاحتجاجات حروبا أهلية، أصبح فيها لكل عُصبَة نَبِيّ، وكل حزب مليشيا.