من الذي يسقط أولًا أمام الرصاص؟

12 يونيو 2017
عمران يونس / سورية
+ الخط -

حقيقة
بقينا هنا، واقفين، أحياء، أعضاؤنا الحيوية تعمل جيدًا: القلب والرئتان والدماغ. تباطؤ في عمل الغدد (يقول الأطباء) مرض ينتشر وأصبح "شيئًا عامًا وشائعًا" ولم يتحول إلى داء. أعضاؤنا الأخرى تباطأ تجاوبها: ترتجف في يدنا كأس العرق البيضاء كالصفحة التي نريدها لحياتنا، لم تعد الكف تستجيب للسلام بشدة وقوة كما في السابق، تعجز أقدامنا أغلب الوقت عن حملنا، تعرف هذا عندما تلتفان حول بعضهما في محاولة لتمثيل خطوة، فندور في أماكننا كدراويش أصابهم العته. تستجيب زاوية فم واحدة للابتسام ولا تستجيب الأخرى؛ فنبدو وكأننا في لحظة استهزاء طويلة.


لحظة
أطالع دمشق من الشرفة، أختبئ من الهواء بلوح الزجاج، تركض القطط، تختبئ تحت السيارات وبمحاذات الرصيف، الكائنات بما تبقى منها من البشرية يتلكؤون، يتكؤون أحيانًا على السيارات الواقفة برتابة منذ البارحة في محاولة للسير، يمشون ملاصقين للجدران مكتوب عليها بألوان مختلفة وأمزجة عكرة مكررة: لا ترمي الزبالة هنا يا ابن الـ ..
الأطفال يلعبون الكرة التي يهدد الجيران الكبار بتمزيقها إن هي اقتربت.

تطير العصافير فوق الأسطحة القريبة بسرعة، تمر مرور الكرام على الدخان الأسود، يتصاعد بعد حيين أو ثلاثة، أو هكذا يبدو المنظر من هنا، رشتان من الرصاص، ثلاثة، أربعة، رصاص لمدة نصف ساعة فقط لا أكثر. أصوات رصاص لا توقف أصوات لعب الأطفال في الشارع أسفل مجمع الأبنية هذا. من حسن حظي أو سوئه أني في مساكن برزة العالية لأراقب من أين تأتي الدخان ومن صاحب الرصاص.

اليوم هو اليوم الذي ستنتقل دفعة من المسلحين الذين سلموا أسلحتهم في برزة البلد؛ أي الحي الشعبي الذي نصبت الأبنية مسبقة الصنع فوقه. هل هذا يعني أن الرصاص من هناك؟ الدخان من هناك؟ أم من حي تشرين الذي لم يصالح بعد، أو ربما القابون وقد غير ثواره رأيهم؟

لا بأس بالقليل من الفزع الذي كما يبدو -في هذه اللحظة بالذات- تجاوزه صغار البشر والعصافير عالية الضجيج في الأشجار التي نجت من القذائف.

من الآن حتى المساء من الممكن أن نعرف ما الذي حدث فعلًا من شبكات الأخبار على صفحة الفيسبوك: موقع المعلومات للبشر المعديّن للاستهلاك المحلي. كما هي نشرات الأخبار معدة للبشر المعدّين للاستهلاك العالمي (لكنها تعمل على توترات أعلى، فلن نتتحدث عن نصف ساعة من الرصاص في دمشق وسرب من العصافير لا يأبه بالمكان. بل سيبدو الخبر مضحكًا إن ظهرت صورة الحدث: لا السماء تحركت عصافيرها ولا الأولاد تركوا كرتهم أو أصواتهم من يدهم).


يوميات
تتكاثر البارات في باب توما والقصاع والمزة وأبو رمانة أكثر مما تتكاثر الحيوانات في الطبيعة هذه الأيام. وضجيج الشوارع التي تتفتح ليلًا يغطي تمامًا على صوت الخوف. كنا سمعنا قبلًا بمثل هذا التاريخ العجيب للحرب في لبنان، وحينها لم نفهم هذه الكيمياء بين الحرب والخوف والرقص والشرب ومحاولات النسيان.

ضجيج خال من اللغة في الليل والنهار. علّ الأصوات تُطفئ في أذهاننا صور جثث أطفال بأكياس بلاستيكية سوداء معدة لحاويات القمامة الكبيرة ربما لحاويات قمامة المطاعم، مفقودة أعضاؤهم مباعة أو مأكولة.

يمكن لأي كان أن يصرخ في الشارع : "فلتبعصك السماء" ولن يأبه أحد بالسماء أو بفعل البعص. فلا صورة تنقلها اللغة الآن، لغة مجهضة الصور لا يحوي رحمها سوى الدماء.

"بدي *** أختك" لا تعني شيئًا أبدًا، مجموعة أصوات يفضّل أن تكون عالية لتطغي على عزلة الحرب في عقولنا. العشق والجنس والسقوط والارتقاء مفردات جوفاء لا تحمل أي دلالات أو صور.

سقطت الصور من اللغة، بينما علا صوت الشعر المنثور الخالي من الصوت والموسيقى. تشبه نشرات الأخبار لكنها عن العواطف القلقة والشهوة المترعة بالفقد -تبًا للحرب- وتأملًا بالمعشوقة التي لا تأتي بسبب ازدحام الحواجز والخوف وقلة ثقتها بعقول وأعضاء الشعراء.

وبقليل جدًا من العلاقات يمكن لأي كان أن يطبع ديوانًا، واثنين. أصحاب دور النشر يطبعون دواوينهم أكثر من الجميع، ودواوين صديقاتهم المقربات، وأصدقاء صديقاتهم، إضافة لدواوين ملصقات الحائط على الفيسبوك. لكن هذا لا يهم على الإطلاق؛ لغة نشرات الأخبار هي كل ما يهم في هذه اللحظة: "واتفق الجيشان الروسي والتركي على التوقيع على اتفاقية...." إنها عنوان القادم وله المستفيدون منه وله ضحاياه.

حتى تتحول بعد عدد قليل من فقرات موجز الأخبار إلى "واعترض الجانب الروسي على تدخل آليات تركية في أماكن سبق واتفقوا على   منح حق حمايتها لجيش سوريا الديمقراطي –الموافق عليه أمريكيًا..."  وكذلك لهذا الإعلان المستفيدون منه وله ضحاياه.

أما الشارع فلا لغة له: يلتهم الأخبار الطازجة أكثر من خبز أفران الدولة والذي لا يزال طحينه أفضل من الأفران الخاصة وأقل تكلفة، وحتى أصحاب الرأي المعارض ينتظرون البقاليات التي تأتي بخبز الدولة الطازج كفواكه اليوم، لكن الاعتماد الأهم تناول الأخبار: اللغة المهمة فعلًا، نسبيًا، إلى حين: حتى نشرة الأخبار التالية؛ تنقض في موجزها الأخير ما جاء قبلًا في موجزها الأول.


استنتاج يشي بذكاء افتراضي
تسقط اللغة في الحروب. هذا هو إذًا فحوى العبث، وكيف بعد الحرب العالمية الثانية طار الأدب، حلق فوق اللغة. (عندما كتب بيكيت تهكمًا وسخرية من اللغة، من سقوط الفرد البشري الصغير سريع الزوال وأخلاقه الاجتماعية التي نشأت من عصابه وقلقه تجاه أخوته من البشريين وخوف من أذى يهدد البشر بعضهم به).

ما هو دارج مفعم بالخطر، الكلمات التي كانت قبلاً باهتة كـ"مرحبًا" و"كيف الحال " و"إلى أين النية بالذهاب" صارت تحمل كل الخطر. والسباب لا يحوي أي صور ولا حتى إهانات ولم يعد بذيئًا أمام أفعال البشر كبارًا وصغارًا.

هكذا تتلاقى عيوننا المتعبة بابتسامة مدروسة يفضل عدم المبالغة باتساعها لأنها من سمات الذئاب –كما نتذكر من كتب قصص الأطفال- لتهدأ نفس الذي نقابله إذ نخشى أن يلاقينا بخوف ويعتقد بضرورة الدفاع عن نفسه أو الهرب: عدنا متوحشين بثياب مصنوعة على عجل في ورشات خياطة صغيرة في أقبية الأحياء الشعبية فيها عشرات من الخياطات وعاملات الحبكة وتركيب السحابات من المهجرات والنازحات وزوجات الشهداء، والمفقودين، والذين ذهبوا ليلعبوا لعبة الحرب يسلون بها الكبار. عدنا إذًا إلى جذورنا الأولى عندما عجزنا عن التأقلم مع الطبيعة فاتجهنا للنجاة منها وصنّعنا مستعمرات بشرية باتت مخلفاتها تهدد كل ما حولها، فضلاتها تسمم منابع المياه، تعاملنا الطبيعة كمستعمرة شجر وكأننا عنصر من عناصرها: عنصر موبوء بالخراء.

هل سمع أحد أن أعداد النحل قد تقلصت في سورية حتى وصلت حد الخطر؟ وأن طيورًا مهاجرة لغتنا من خريطة مسيرها؟ أو أن الأشجار احترقت مع البشر أثناء المعارك وتحت وابل الصواريخ والقذائف، وأن الذي نجا منها في -المناطق الآمنة- حرقها المتنفذون للاستيلاء على الأرض؟ هل أقلقت هذه الأخبار أحد؟


العاصمة
أستيقظ في دمشق على صوت الغربان دائمًا. إنها طيور مناسبة لهذه المدينة، زعيقها يقترب مما يجب أن يكون عليه صراخ الآلهة، إنها الحرب الآن.

البشرية متعالية حد الحماقة، لذا عاد البشر صغارًا، أعمارهم قصيرة وسريعة (بينما أصغر جني من الملائكة الذين هبطوا من السماء الثالثة طوله مسير ألف يوم) وللغربان قضاء أجمل وأكثر قدمًا وأصالة من قضاء البشر، الذين أسلموا مسؤولية أقدارهم للسماء.

لكن أقسى ما في أخبار الحرب هي أخبار الأشجار: لا وقت للأشجار في الحرب، لا دور لها إذ لا يمكن أن تحمل أسلحة أو تنضم لهذا المعسكر أو ذاك، لا أعضاء فيها قابلة للبيع في السوق السوداء، والأسوأ أنها لا تسقط بالرصاص.

المساهمون