من تفجير لبنان إلى تفكيك العراق
ثمّة وقائع سوداء تتناسل فصولا في عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه. العتمة تتوغل، فيما النشوة الوحشية تسكن رؤوس الشياطين والأفاقين واللصوص، وهم يراقبون خيوط الدم تنساب لتفضح ما يكيدون، وما يزمعون إشعاله كي تستمر الحرائق وتتوالى النكبات، وتظل رؤوسهم سالمةً من العطب.
أولى تلك الوقائع التي صفعت وجوهنا قدمت مع شحنة ثقيلة من نترات الأمونيوم، قيل إنها رست، في مصادفةٍ مجنونةٍ مجهولة التفاصيل، في مرفأ بيروت وقد اكتنفتها الخبايا، وأحاطتها الألغاز، وظلت خباياها مكتومةً وألغازها مستعصيةً على الحل سبع سنين، حتى أوقع القدر أهل بيروت في حبائلها، فأمطرتهم وابلا من حميم ومن غسق، وأوقعت منهم مئات القتلى وآلاف الجرحى، وهجرت عشرات آلاف الهائمين وتركتهم بلا مأوى، ودمّرت آلاف البيوت والأسواق والمشافي ومراكز الثقافة ودور العلم. ومع كل ما حدث، لا تزال خباياها مكتومةً وألغازها مستعصية، والكل يُنكر صلته أو حتى معرفته بها، من فعل كل هذا إذن وكيف؟
يعرف أهل بيروت أن حكم الفساد والطوائف مسؤولٌ ليس عن كارثة الانفجار فحسب، وإنما عن كوارث وحرائق عاشها اللبنانيون عقودا
يعرف أهل بيروت أن حكم الفساد والطوائف مسؤولٌ ليس عن كارثة الانفجار فحسب، وإنما عن كوارث وحرائق عاشها اللبنانيون عقودا، وأن الحل هو في تنحية الرؤوس والأذناب معا، و"كلهم يعني كلهم"، فقد أنهى الانفجار صلاحيتهم ووضعهم في زاويةٍ لا يُحسدون عليها، وأهل بيروت يريدون استيلاد نظامٍ يقوم على أسسٍ جديدة تضمن تحرير الوطن من شرور سطوة الخارج، وتحرير المواطن من غوائل الجوع والبطالة والفساد وسوء الخدمات، وقد ثاروا من أجل أن ينال القصاص من أجرم ومن أخطأ، وهم يدركون جيدا أن نوعا من التواطؤ قد يحصل تحت هذه الحجة أو تلك، أو ربما يتم طبخ روايةٍ على نار هادئة، محبوكةٍ بعناية، لكنها مقطوعة الجذور، يسهل تمريرها وترضي كل الأطراف، تحمل المسؤولية فيها لمصادفاتٍ مجنونة كالتي جاءت بالشحنة إلى بيروت، إذ ألقي اللوم فيها على عاتق لحّام كان يلصق قطعتي حديد في نافذةٍ مهجورة، وربما كان قد أشعل سيجارته في ساعة راحة، فأحرق المدينة كما فعل نيرون بعاصمة بلاده. والرهان قائم على أن "نترات الأمونيوم" لن تحكي روايتها بسهولة، وهي إن حكت بعد عقود فستكون ذاكرة أهل بيروت قد نسيت شحنة الموت، وتبقى العقبى لهم في الكوارث التي ستلحق بها.
بعض ما أعقب الكارثة ملفتٌ ومثيرٌ أيضا، فقد وصل الرئيس الفرنسي ماكرون إلى بيروت على عجل، في هيئة مسؤولٍ في دولة لها الوصاية على دويلة قاصرة. التقى السياسيين كما يلتقي معلمٌ بطلبة مدرسة أولية، قرّع رؤوسهم على وقع ما فعلوه. قال لهم: "لم يعد شعبكم يثق بكم"، وصفهم بأنهم فاسدون. صارحهم بأنه لن يدفع لهم المال، إنما لأبناء الوطن الحقيقيين. كما خاطب أبناء الوطن مواسيا في نكبتهم: "لن أترككم وحدكم". شكروه على وقفته معهم ومحضوه محبتهم، لكن بعضهم تمادى واستمرأ الذل: "نريدك راعيا لنا.. نريد عودة الانتداب الفرنسي". لقّنهم ماكرون درسا قاسيا: "عليكم أن تحفظوا سيادة بلدكم"!
تجاهلت بغداد "بشارة" بولتون، فيما يدرس المطبخ السياسي في أربيل إمكانية استغلال نصيحته لتنشيط حملة ترويج مطلب الاستقلال في المحافل الدولية
ولم تنتهِ الحكاية بعد، إذ لا يزال أهل بيروت ينتظرون معجزةً من نوع ما يستعيدون من خلالها بلدهم. ووسط الحمّى المتصاعدة في عالمنا العربي، ولأن مصائبنا لا تأتي فرادى، وإنما مجتمعات، فقد جاءنا من يبشّرنا بأن تفكيك العراق بات قريبا. جون بولتون المؤتمن على أسرار البيت الأبيض سابقا، والمنقطع حاليا لفضح تلك الأسرار الخبيئة، كشف أن الدولة الكردية قادمة، وفي وقت أقرب مما نظن، وأن الإدارة الجديدة، ديمقراطيةً كانت أم جمهورية، ستسعى إلى تحقيق ذلك، لأن "تقسيم العراق شيء مفيد". ولم ينس أن ينصح الأكراد بخبث أن "استمروا في التشاور مع الدول الغربية.. ابذلوا جهودا سياسية ودبلوماسية مكثفة من أجل تحقيق حلمكم".
تجاهلت بغداد "بشارة" بولتون، وكأن الأمر لا يعنيها، فيما يدرس المطبخ السياسي في أربيل إمكانية استغلال نصيحته لتنشيط حملة ترويج مطلب الاستقلال في المحافل الدولية، وقد صفّق دعاة الأقاليم لبشارة بولتون بأمل أن تمهّد لهم الطريق لنيل مبتغاهم، هم أيضا، على قاعدة "مفيش حد أحسن من حد"! وبين تفجير بيروت وتفكيك العراق، تتناسل الوقائع السوداء على مدار الساعة، وقد يحدث ما هو أسوأ، تابعوا الأخبار العاجلة كي تكتمل الصورة لكم، وقولوا: حسبنا الله.