27 أكتوبر 2024
من صرخات الوجع السوري .. "قلبي قلبك"
لولا وسائل التواصل الاجتماعي، وما تمنح الناس من فضاءاتٍ مفتوحة وميادين للسجال والنقاش ومنابر خطابية ومنصّات إخبارية، لما تمكّن السوريون من أن يتابعوا أخبار بعضهم بعضا، ولما كان في وسعهم تلقف الخبر بالسرعة التي يتم إشهاره بها، فكثير من الأخبار ومن قصص السوريين لا تعني العالم، ولا تشكّل خبرًا أو مادّة إعلامية تتناقلها وكالات الأنباء أو المحطّات الفضائية والمواقع والإذاعات، فأن يموت شابٌّ سوري في أوائل عشرينياته بجلطةٍ قلبيةٍ أو دماغية، لا يعتبر مادة إخبارية، ولن يهتم العالم بها، لكن هذا يحصل، ويحصل باستمرار، ليس فقط في المنافي البعيدة، حيث فصلوا عن الماضي، ورأوا أنفسهم فجأة في الفراغ، بل أيضًا في الداخل السوري، حيث نسمع كل حين بوفاة شاب بجلطة، أو توقف قلب أو غيرها من الأسباب غير المألوفة لشبابٍ في مثل أعمارهم، فمعروفٌ أن بعض الأمراض تصنّف أنها تصيب أعمارًا معينة، ومنها احتشاء العضلة القلبية أو الجلطات الدماغية. لكن على ما يبدو فإن لهذه المنطقة المصابة بلعنة الطغيان والحروب ما يجعلها ميدانًا للبحوث الطبية، طالما أن الإنسانية لم تستطع المساعدة.
على أثر هذه الحالات التي تحصل في بلدان الاغتراب، أنشئت صفحة على "فيسبوك" تحت اسم "قلبي قلبك"، ويحمل العنوان شحنةً عاطفيةً عالية، كما يحمل دلالة على معنى التآخي والتعاضد والمواساة وتشارك الهموم والأحزان، على أمل أن تكون هذه الصفحة مكانًا حميمًا واسعًا للبوح والدعم في الوقت نفسه، وأن يطرح العون من يستطيع المساعدة بما يتعلق بالأمور الحياتية، أو بمنح فضاء عامر بالعواطف البديلة، كأن يصبح بعض السيدات الخمسينيات فما فوق بمثابة أمهاتٍ بديلةٍ لشبابٍ في مقتبل العمر يقدّمن ما يستطعن من الاحتواء، وسدّ الثغرات العاطفية المتعلقة بالأمومة، والعكس صحيح أيضًا، ولكل واحدٍ الحق في أن يحكي قصته، أو
يطرح فكرته المستخلصة غالبًا من تجربته الخاصة. ولقد تلقّاها الأعضاء الذين تمّت دعوتهم بترحيبٍ ورحابة، وبدأت قصص السوريين تتدفق مثل المياه المحبوسة في هذا الفضاء الأزرق. وكانت هناك قصص وتجارب فردية كثيرة جديرة بالتوقف عندها، وهذا ما تريد المقالة التوقف عنده، وليس انزلاق بعضهم نحو الخلافات السياسية والإيديولوجية والابتعاد عن الغاية الأساسية التي ترومها الصفحة.
في الواقع، يمكن أن يصنف الشباب السوريون الذين هجروا من ديارهم، ومشوا في طريق تغريبتهم الطويلة الحائرة، إلى جيليْن أساسيين، جيل الذين وصلوا إلى بلاد اللجوء، وهم على أبواب المراهقة، أو في عمرٍ جدير بأن تكون له ذاكرة، وصلوا معها إلى بلد اللجوء، وهي متخمةٌ بصور الهلاك السوري، وأرواحهم مثخنةٌ بجراحات الحرب. وأصبح أفراد هذا الجيل، بعد تسع سنوات من الجحيم السوري، شبابًا في عشرينيات أعمارهم أو على أبوابها، وهو العمر الذي سجلت فيه معظم حالات الوفيات بالجلطة أو الانتحار. أما الجيل الثاني فهم الأطفال الذين ولدوا في بلدان اللجوء، أو في المنافي. ولهذا الجيل خصوصيته أيضًا، فهو لم يعايش الحرب، ولا يمتلك ذاكرة بصرية عن الأهوال التي شاهدها الجيل الأكبر أو جيل أهاليهم، كل ما سيعرفونه عن البلاد التي غالبًا سيسعى الأهل إلى تكريسها في وجدانهم أحجية تمتلك رهبة المقدّسات من خلال واقع عايشوه، وحفر في وجدانهم، سيكون بالنسبة إليهم واقعًا تاريخيًا غير مفهوم. هذا الجيل الذي ولد في تلك البلدان ستكون له معاناته المختلفة ومشكلاته المغايرة، لكنه سيكون في ظروفٍ نفسيةٍ أكثر رحمةً من الجيل الأول.
الوحدة الموحشة واحدة من المشكلات الشائعة.. دخلت إلى سوبر ماركت في برلين، لأشتري
سلعة، سألني الشاب مباشرة: حضرتك من أين؟ السوري يعرف السوري بتلقائيةٍ مثلما لو أن مجالاً مغناطيسيًا يجذبهم إلى ساحته. عندما عرف أنني من سورية أول جملة قالها لي: "دبريلي عروس، أريد أن أتزوج، الحمد لله مو ناقصني شي، شغل عندي وسكن عندي ولغتي ممتازة، بل أجيد أربع لغات تعلمتها خلال رحلة لجوئي". دخلت معه في نقاش حينها، فاكتشفت أن المنفى الكبير الذي يعيش فيه هو منفى اللغة، قال لي إنه يجيد الألمانية، لكنه لا يستطيع الارتباط بفتاة ألمانية، "أنا أجيد اللغة لكنني لا أشعر بها، كيف يمكنني أن أتعايش معها وأعيش لحظات حميمة؟ أنا مندمج، إلى حد ما، في مجتمعهم، لكن لدي ثوابت لا أتخلى عنها". قلت له: لا أحد يطلب منك التخلي عن ثوابتك، إذا كانت لا تؤثر على غيرك.. فأصرّ على أنه لا يستطيع الارتباط إلاّ بابنة بلده، وهو في أمسّ الحاجة لذلك، فكل يوم يعود إلى البيت وحيدًا وتبدأ الوحشة تنهش روحه. جيل من الذين وصلوا إلى العمر الحرج ليس معهم من ماضيهم إلّا ما احتفظت به عقولهم، حمولة من الألم تُنهك أرواحهم، وهم في أمسّ الحاجة إلى من يؤنس وحدتهم، ويبدّد وحشتهم، لكن اللغة التي لا تُزرع في القلب وتنمو وتتطور لتصير رحمًا للعاطفة والمشاعر ستُبقي صاحبها غريبًا في منفاه، هذا ما أراد الشاب السوري أن يعبّر عنه.
هذا نموذجٌ عن الشباب السوري الذي استطاع، بنسبةٍ عالية، أن يؤمن مصدر عيش له، لكن
معظمهم لم يستطع أن يكون له مشروعه الخاص في الحياة. في غالبيتهم كل واحد أمّن مصدر دخل بطريقة أو بأخرى، كثيرون منهم يشتغلون بالأسود، لكنهم يفتقدون إلى المشروع، وإلى الطموح. ويفتقد الواحد منهم السوري الآخر الذي يسدّ عليه الثغرات التي تتسرّب منها الوحشة والذاكرة التي لا ترحم، وما زالوا بفضل وسائط التواصل، وما تقدمه الشبكة من إمكانية الوصول إلى الخبر والصورة والمعلومة، بغض النظر عن صدقيتها، ما زالوا مرتبطين ببلادهم، يعايشون الأحداث ويعيشون المرارة في كل لحظة، فأخبار بلادهم لا تحمل غير صور الدمار والقتل والتهجير والتواطؤ ونكران العالم مأساتهم. ما زالوا محاصرين بالذاكرة الموحشة التي تتجدّد كل لحظة، ومحاصرين بالإثارة المتواصلة لانفعالات الحرب والعواطف التي تؤججها، والنزاعات التي تشعلها، فالحرب تتغذّى على الكراهية، وكل الأطراف المتحاربة في حالة انفعال مفرط، وهي تستخدم السلاح الأكثر فتكًا، سلاح الإشاعات التي تتحوّل في وجدان متلقيها إلى حقائق. وعليه، يزداد الاحتقان في الصدور ويزداد الشباب اضطرابًا ويأسًا من إمكانية العودة إلى أرضٍ يشعرون بأنهم لو لم يفقدوها لكانت حياتهم أفضل، وطموحاتهم أوسع، ومشاريعهم قابلة للإنجاز.
شباب فاقد للمعنى، وفاقد للبوصلة الشخصية. مرّ معظمهم بتجارب قاسية ووحشية، ومعظمهم مصابٌ في شغاف قلبه بالفقدان والمرارة، يحتاجون من يسمعهم. كانوا القربان الأعظم لحربٍ رخيصة، قذفوا في المنطقة الرجراجة، حيث يقارعون المستحيل من أجل مدّ الجسور بينهم وبين مستقبلٍ لا يعرفون شكلاً له، فمن الطبيعي أن يكونوا هدفًا للجلطات بأنواعها، والاكتئاب بدرجاته، واحتمال الانتحار القائم في أفقهم يغويهم ويجذبهم إليه. هؤلاء هم الخامات التي كانت مؤونة المستقبل لأي وطنٍ يحبو لينهض من تحت ركامه، بل هم وأقرانهم الذين دفعوا إلى خياراتٍ أبشع، خيار حمل السلاح في كل المناطق المشتعلة، ليقتل السوري أخاه السوري، يشكلون المادة الخام الأساسية للبناء والإبداع والإنتاج، جيل الشباب والفتوة والإزهار الذي تفتقر إليه المجتمعات الهرمة المرفهة.
"قلبي قلبك" صرخة من صرخات الوجع السوري، ومرآة عن واقع الحال للروح السورية المأزومة في واقعٍ موّارٍ بالتغيرات والعنف والمظالم العامة، إن كان في سورية أم في الجوار الذي يحوي سوريين أيضًا. واقع متخم بالحقوق المستلبة من الأقوى.
في الواقع، يمكن أن يصنف الشباب السوريون الذين هجروا من ديارهم، ومشوا في طريق تغريبتهم الطويلة الحائرة، إلى جيليْن أساسيين، جيل الذين وصلوا إلى بلاد اللجوء، وهم على أبواب المراهقة، أو في عمرٍ جدير بأن تكون له ذاكرة، وصلوا معها إلى بلد اللجوء، وهي متخمةٌ بصور الهلاك السوري، وأرواحهم مثخنةٌ بجراحات الحرب. وأصبح أفراد هذا الجيل، بعد تسع سنوات من الجحيم السوري، شبابًا في عشرينيات أعمارهم أو على أبوابها، وهو العمر الذي سجلت فيه معظم حالات الوفيات بالجلطة أو الانتحار. أما الجيل الثاني فهم الأطفال الذين ولدوا في بلدان اللجوء، أو في المنافي. ولهذا الجيل خصوصيته أيضًا، فهو لم يعايش الحرب، ولا يمتلك ذاكرة بصرية عن الأهوال التي شاهدها الجيل الأكبر أو جيل أهاليهم، كل ما سيعرفونه عن البلاد التي غالبًا سيسعى الأهل إلى تكريسها في وجدانهم أحجية تمتلك رهبة المقدّسات من خلال واقع عايشوه، وحفر في وجدانهم، سيكون بالنسبة إليهم واقعًا تاريخيًا غير مفهوم. هذا الجيل الذي ولد في تلك البلدان ستكون له معاناته المختلفة ومشكلاته المغايرة، لكنه سيكون في ظروفٍ نفسيةٍ أكثر رحمةً من الجيل الأول.
الوحدة الموحشة واحدة من المشكلات الشائعة.. دخلت إلى سوبر ماركت في برلين، لأشتري
هذا نموذجٌ عن الشباب السوري الذي استطاع، بنسبةٍ عالية، أن يؤمن مصدر عيش له، لكن
شباب فاقد للمعنى، وفاقد للبوصلة الشخصية. مرّ معظمهم بتجارب قاسية ووحشية، ومعظمهم مصابٌ في شغاف قلبه بالفقدان والمرارة، يحتاجون من يسمعهم. كانوا القربان الأعظم لحربٍ رخيصة، قذفوا في المنطقة الرجراجة، حيث يقارعون المستحيل من أجل مدّ الجسور بينهم وبين مستقبلٍ لا يعرفون شكلاً له، فمن الطبيعي أن يكونوا هدفًا للجلطات بأنواعها، والاكتئاب بدرجاته، واحتمال الانتحار القائم في أفقهم يغويهم ويجذبهم إليه. هؤلاء هم الخامات التي كانت مؤونة المستقبل لأي وطنٍ يحبو لينهض من تحت ركامه، بل هم وأقرانهم الذين دفعوا إلى خياراتٍ أبشع، خيار حمل السلاح في كل المناطق المشتعلة، ليقتل السوري أخاه السوري، يشكلون المادة الخام الأساسية للبناء والإبداع والإنتاج، جيل الشباب والفتوة والإزهار الذي تفتقر إليه المجتمعات الهرمة المرفهة.
"قلبي قلبك" صرخة من صرخات الوجع السوري، ومرآة عن واقع الحال للروح السورية المأزومة في واقعٍ موّارٍ بالتغيرات والعنف والمظالم العامة، إن كان في سورية أم في الجوار الذي يحوي سوريين أيضًا. واقع متخم بالحقوق المستلبة من الأقوى.
دلالات
مقالات أخرى
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024