05 نوفمبر 2024
من فوق الشجرة؟
سرّبت مصادر إسرائيلية خبراً مقصوداً إنّ إسرائيل تدرس إرسال سفير جديد للأردن، خلفاً للسفيرة، عينات شلاين، التي رفض الأردن عودتها مع طاقم السفارة الإسرائيلية (المغلقة حالياً في عمّان) بسبب ردود فعلها غير المقبولة أردنياً بعد حادثة قتل حارس أمن إسرائيلي مواطنين أردنيين في بيت لأحد الديبلوماسيين الإسرائيليين في يوليو/ تموز الماضي. وفي المقابل، ردّ مصدر أردني، رفيع المستوى، على التسريبات الإسرائيلية بأنّه "لا فتح للسفارة الإسرائيلية قبل محاكمة قاتل الأردنيين". وربط ذلك بقضية الكرامة الوطنية، وهو تصريحٌ صارم، في مواجهة المحاولات الإسرائيلية لتخفيف الشروط الأردنية، أو الوصول إلى حلّ وسط.
كان "مطبخ السياسات" في عمّان، بعدما شعر بإحراج شديد من طريقة استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي للحارس الإسرائيلي (سمحت له السلطات الأردنية بالعودة بسبب القانون الدولي الذي يمنع احتجازه بعد الحادثة)، وكأنّه بطل قومي، بينما كانت مفتوحةً في الأردن بيوتُ العزاء في المواطنيْن الذين لا يُعرف إلى الآن سبب قتلهما، وهناك شكوك كبيرة بعدم وجود مبرّر لقتلهما.
إثر ذلك، طوّر الأردن مقاربته في مواجهة تداعيات الحادثة، ووضع شروطاً قانونية وسياسية، تتمثل برفض عودة السفيرة الحالية، وبإجراءات محاكمة واضحة شفافة لحارس الأمن، وباعتذار إسرائيلي عن الحادثة، وتعامل الجانب الإسرائيلي مع هذه الشروط باستهتار. وليست الإشكالية في الموقف الأردني الذي استجاب للحدّ الأدنى من المزاج الشعبي الغاضب والمعادي لإسرائيل أصلاً، بل في محاولة الالتفاف على الشروط الأردنية من نخبةٍ سياسيةٍ "تتذاكى" في التحذير من أنّ الأردن هو المتضرّر حالياً من جمود العلاقات وتوترها مع إسرائيل، وأنّ مصلحتنا، وخصوصا في الظرف الإقليمي الراهن، وجود علاقات قوية مع إسرائيل!
تتمثل مبرّرات هذا الصوت المرتفع، أردنياً، في أنّ الموقف العربي بأسره رخوٌ في العلاقة مع إسرائيل، وهناك عملية التفاف على الأردن من النظام الرسمي العربي، وتجاوز لدور الأردن المحوري في القضية الفلسطينية، وربما لاحقاً تمرير حلول إقليمية، بالتواطؤ مع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منها ما قد يضرّ بالمصلحة الأردنية، مع وضع الأردن على الهامش، وتراجع أهميته الإقليمية، وبالتالي، إعادة التفكير في حجم المساعدات والدور.. إلخ.
يعزّز أصحاب هذه "النظرية النخبوية" الأردنية قولهم بوجود لوبي صهيوني صلب حول الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، قد يؤذي الأردن، في حال بقينا مصرّين على شروطنا تجاه إسرائيل. وبالنتيجة، يرى أصحابنا أنّ الأردن وضع نفسه على الشجرة، من خلال هذه الشروط، وليس إسرائيل التي لا تكترث بفتح السفارة أو إغلاقها، طالما أحضان دول عربية كثيرة مفتوحة لعناقها.
ضمن هذه المناخ السياسي في عمّان، يمكن فهم التسريبات الإسرائيلية أخيرا بشأن السفارة، وردّ الفعل الأردني الصارم عليها، من "أطرافٍ" في "مطبخ القرار" في عمّان، يربط الموقف الأردني والشروط الحالية بمفهوم الكرامة الوطنية، وباحترام سيادة الدول، فالرد، في ظني، ليس فقط لقطع الطريق على إسرائيل، بل على أصحاب نظرية "من فوق الشجرة".
مع أهمية حادثة السفارة، إلاّ أنّ الأزمة المتدحرجة غير المعلنة بين الأردن وإسرائيل تتجاوز ذلك، وهو ما يدركه فريقٌ من السياسيين والمسؤولين، فهناك محاولات اليوم لبناء خطة أميركية تقوم على اختزال مفهوم الدولة الفلسطينية وتقزيمه إلى ما يطلق عليه "(-) state" (دولة ناقص)، بما يتجاوز مسألة الحدود واللاجئين والقدس والسيادة الوطنية، بمعنى حكم ذاتي، أو محاولة ترويج طرح الكونفدرالية الأردنية - الفلسطينية مرّة أخرى، وهو خيار يؤكد مسؤولون أردنيون، في جلسات خاصة، أنّهم رفضوا وضعه على الطاولة ابتداءً، في نقاشاتهم مع المسؤولين الأميركيين الذين كانوا يعرضون "أفكاراً" عن التسوية المقترحة.
يمكن اختصار الهواجس الأردنية ببيت الشعر "كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح.."، فالأردن وحيداً في معركة القدس، ومواجهة محاولة تهويدها من حكومة نتنياهو، ووحيداً في التأكيد على أولوية القضية الفلسطينية، وفي مواجهة اللوبي الإسرائيلي المتطرّف في أميركا، والتفاهمات غير المعلنة مع أطراف عربية، في وقتٍ يواجه الأردن أزمةً ماليةً واقتصاديةً خانقة، وتراجعا في المساعدات الخارجية التي يعتمد عليها في اقتصاده الوطني، فمسألة السفارة تتداخل فيها اعتباراتٌ وحساباتٌ معقدة عديدة.