من وصل بالظلم.. كيف يعدل؟
(1)
سؤال بسيط جدًا: تخيل خريج كلية (الحقوق) الذي يعلم أنه تم تعيينه في النيابة بتخطي زملائه الأكثر تفوقًا، فحرموا هم من التدرج في سلك النيابة، وصولًا إلى القضاء، وارتقى هو مكانهم بالواسطة، لأنه إبن مستشار، أو لأنهم أبناء العامة، أو لغيرها من المظالم، ثم يصل هذا الخريج بعد سنوات إلى منصة القضاء، تخيل هذا الذي (لحم أكتافه) من تلك المظلمة الأساسية التي أوصلته، وحرمت المستحق دونه، هل يمكن لهذا القاضي أن يعدل؟ أو أن يكون العدل هاجسه المؤرق؟ أو أن يكون ميزان العدالة في قلبه مستقيمًا؟
(2)
ويكون السؤال التالي: تخيل قاضياً هذا حاله، كيف يكون ولاؤه تجاه (النظام) و(المنظومة) التي أوصلته، من دون وجه حق، وهو يعرف، إلى ما هو فيه من المكانة والرفعة والتبجيل والمستوى المادي المرتفع. كل هذا مقارنة بزميله الذي كان يستحق هذا المكان، واغتصب حقه قبل سنوات، تخيل كيف يكون ولاء هذا القاضي لهذا النظام وتلك المنظومة، وحرصه على بقائها، واستماتته من أجلها؟
(3)
وقد يقول قائل أن جل المصريين يتعاطون الواسطة بدرجة ما، قد تقل وقد تكثر، والرد على هذا من وجهين، الأول أن التعامل بالواسطة على دربين، درب قد يؤدي إلى تسهيل بعض الأمور، أو تسريع إجراءات، أو ما شابه من أوجهٍ ليس فيها تعد مباشر على حقوق الآخرين، ونوع فيه تعد على حقوق الآخرين، وحالتنا هذه تقع بوضوح في النوع الثاني، بل هي أسوأ أنواع النوع الثاني، إذ إن المهندس الذي يأخذ حق زميله الأكفأ، أو الطبيب الذي يأخذ حق زميله الأكفأ، أو المحاسب الذي يفعل هذا، قد ارتكبوا إثمًا كبيرًا، لكن ذلك الإثم لا يخل بأصل مهنتهم، ولا يتعارض معها، فما زال المهندس الأقل كفاءة قادرًا على إنجاز عمله، وهو مجاز من كلية الهندسة ومهيأ للعمل مهندساً، وما زال الطبيب الذي أخذ حق زميله الأكفأ قادرًا على إنجاز العمل، وهو مجاز من كلية الطب للعمل طبيباً، وما زال المحاسب الذي أخذ حق زميله قادرًا على أداء عمله المحاسبي، فلم تخل الواسطة بأصل القدرة على أداء الوظيفة، صحيح أنها جعلت الحرمة وقلة البركة تحيط بصاحبها، وصَعَّدت الأقل كفاءة، لكنهم في النهاية قادرون على أداء أعمالهم الهندسية، أو الطبية، أو المحاسبية أو غيرها. وفي حالة القاضي الذي أصل أداء وظيفته هو إقامة العدل، فإن أخذ حقوق الناس وإقامة مساره الوظيفي عليها قد تعارض، ابتداءً وبشكل كلي، مع أصل المهمة التي يقوم بها، فالقاضي ليست مهمته (تسميع) القوانين، إنما أصل مهمته إقامة العدل، فإذا انتفى أصل المهمة، منذ البداية، فإننا نصل إلى الحالات التي نراها جميعًا من (تقنين) الظلم والتلاعب اللفظي بالقوانين والملابسات لتبرئة المذنب وإدانة البريء!
(4)
وهكذا، الواسطة المستشرية في المجال الطبي، وبشكل أقل في المجال الهندسي، قد ربت أجيالًا من الأقل كفاءة، لكن هذه الواسطة المستشرية بشكل مخيف في تعيينات النيابة منذ عقود أخرجت قضاة أصبحوا هم وآباؤهم، القضاة في معظمهم طبعًا، (لحم أكتافهم) من الظلم وتخطي حقوق الآخرين، وإبقائهم في ظلمات الإحساس بالظلم والقهر، وهم يرون حقوقهم تضيع وتذهب لغيرهم ممن لا يستحقون، فالقاضي الذي بنى مساره الوظيفي، منذ اللحظة الأولى على الظلم، حري أن (تملأ الظلمات) قلبه، وتطمس على بصيرته، فمن نبت لحمه من حرام ومن ظلم أنى يعدل! والأمر الآخر أن هذه الآلاف المؤلفة من القضاة وذويهم قد أصبحوا أسرى لإحسان (المنظومة) التي أعطتهم ما لا يستحقون، وأصبحوا من المستفيدين من بقائها ومن المتضررين من زوالها، وأصبح ارتباطهم بها يكاد يصل إلى وحدة المصير وجودًا وعدمًا.
(5)
ثالثة الأثافي في هذا أن هذه الخطيئة الأولى، المتكررة آلاف المرات بعدد الذين وصلوا إلى منصة القضاء، متخطين المتفوقين عليهم، تورث أصحابها الذلة وانكسار العين أمام (النظام) و(المنظومة) والقائمين عليها، فمن منهم، بربكم، يجرؤ على أن يقول للقائمين على المنظومة في يوم من الأيام أإكم ظلمة؟، أو أن يقف في وجه مظالمهم، أبسط ما يقال لهم وقتها (إحنا دفنينه سوا)!، وليسوا في حاجة لأن يقولوها بلسان الحال، ستكفي نظرات الأعين وقتها لردع من تسول له نفسه أن ينسى خطيئته الأولى!
(6)
من هنا، لا يجب أن نستغرب كل ما نراه على الساحة القضائية في مصر من شراسة في الدفاع عن الباطل، وفي السعي في مرضاة الحاكم بما يعقل وبما لا يعقل (مثل أحكام الإعدام بالجملة، ومن الجلسات الأولى ومن دون سماع الدفاع)، والأحكام القمعية على تهم بسيطة، وأحكام البراءة على تهم رهيبة، والإدانة فيها واضحة كاشفة.