28 أكتوبر 2024
من يحمي من؟
أجاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في مقابلة لافتة مع صحيفة واشنطن بوست، عن سؤال يتعلق ببقاء القوات الأميركية في الشرق الأوسط، ذاكراً أنّ سبب بقائها هو النفط الذي أخذت أهميته بالتضاؤل بالنسبة للولايات المتحدة، لأنّ معدل الإنتاج الأميركي منه في الوقت الحالي أكبر من أي وقت مضى، مؤكدًا أنّ الولايات المتحدة "قد تصل فجأة إلى نقطةٍ لن نحتاج فيها إلى البقاء هناك"، وأنّ ذلك قد يدفع بلاده إلى الانسحاب من المنطقة، قبل أن يضيف أنّ ثمّة "سببًا واحدًا للبقاء، هو إسرائيل" وحمايتها، بعد أن تضاءلت أهمية نفط المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة.
يثير هذا التصريح تساؤلات شتى عن الهدف المعلن منه، وعن ربط استمرار تموضع القوات الأميركية في المنطقة، بهدف حماية إسرائيل، وممن هذه الحماية؟ ولماذا على الولايات المتحدة القيام بها؟ وهل فعلًا تحتاج إسرائيل لهذه الحماية، وهي تعتبر نفسها أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط؟ وهل تضاءلت أهمية النفط الشرق الأوسطي إلى درجة أنّ الإدارة الأميركية لم تعد يعنيها حمايته، والسيطرة عليه، والتحكم بأسعاره وعائداته المالية؟ وما هي النقطة التي إن وصل إليها لن يحتاج بعدها لإبقاء قواعده العسكرية في المنطقة؟
في الوقت الراهن، تعتمد الولايات المتحدة على إنتاجها من النفط الصخري، لزيادة مخزونها من النفط، والاستغناء عن مصادره الخارجية. وتبلغ كلفة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة من 30 دولاراً إلى 60 دولاراً، بحسب مناطق إنتاجه. وفي المتوسط، تتراوح هذه الكلفة ما بين 35 - 40 دولاراً أميركيَّاً للبرميل. وقد انخفضت تكلفة الإنتاج في الأعوام الأخيرة نتيجة التطور التكنولوجي.
تعني هذه المعادلة أنّ للولايات المتحدة مصلحة في استمرار التحكم بسعر برميل النفط العالمي، بحيث لا يقترب من كلفة إنتاج البرميل الصخري، فلا ينخفض عن سعر 40 دولاراً للبرميل، وإلا فقد جدواه الاقتصادية، وتعرّضت الاستثمارات الأميركية الضخمة في هذا المجال للانهيار، إذ لا تتعلق أهمية النفط للولايات المتحدة باكتفائها الذاتي منه فحسب، بل وبقدرتها على التحكّم بأسعاره، وبتوجيه الجزء الأكبر من عائداته، لما له من تأثير على الاستثمار وأسواق المال العالمية، وعلى استمرار تحكّمها بأسواقه وبتوزيع إنتاجه، بل وباستخدامه أداة ضغط، مثلما حدث مع إيران ومع العراق.
سيبقى الاهتمام بالنفط أولوية لمصالح الولايات المتحدة، سواء حققت اكتفائها الذاتي منه أم لم تتمكّن من ذلك، إلّا أنّ ثمة سؤالًا عن سبب إقحام ترامب لهدف حماية إسرائيل ضمن أوليات الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، بل وباعتباره هذا الهدف هو السبب الوحيد لذلك الانتشار، بعد زعمه بتضاؤل أهمية النفط الشرق أوسطي للولايات المتحدة، وهو سؤالٌ يبدو ملحًّا ستحاول المقالة الإجابة عنه ضمن هذا السياق.
عُرفت إسرائيل منذ قيامها بأنها مخلب قط للمصالح الاستعمارية في المنطقة، وتتمثل مهمتها الرئيسة في القيام بدور شرطي المنطقة الذي يحمل عصا غليظة، ويهدّد جميع محاولات الإفلات من الهيمنة الغربية المباشرة.
أدّت إسرائيل هذا الدور بكفاءة عالية، فقد كان عدوانها على مصر عام 1956 ذريعة الحرب التي شنّتها بريطانيا وفرنسا ضدّ جمال عبد الناصر، بعد تأميمه قناة السويس في ما عُرف باسم العدوان الثلاثي. ومارست سياسة الردع عند محاولات تمرير حلف بغداد، وساهمت هذه السياسة في حماية بعض الأنظمة العربية من تغييرات محتملة في حينه. وحلق الطيران الصهيوني على ارتفاع منخفض فوق المدرعات السورية التي اجتازت الحدود الأردنية في حوادث أيلول/ سبتمبر عام 1970. ودعم الصهاينة الحركات الانفصالية، مثل الحركة الكردية في العراق. كما شكّل التدخل الإسرائيلي المباشر، كما في عدوان عام 1956، أو عبر التلويح بهذا التدخل، عاملًا رئيسًا في سياسة الردع الهادفة إلى منع إحداث متغيراتٍ جذرية في المنطقة، والمحافظة على المصالح الغربية فيها.
لكنّ الرياح سارت على عكس ما تشتهي السفن الصهيونية عام 1990 عند اجتياح العراق للكويت. يومها لم يكن بمقدور هذا الكيان أن يتدخّل، واضطرت الولايات المتحدة أن تحشد أكثر من نصف مليون جندي نقلتهم جوًا وبحرًا، وأن تقيم تحالفًا دوليًا استُثنيت منه إسرائيل، لإرغام النظام العراقي على الانسحاب من الكويت، وأن تشنّ الحرب عليه مباشرةً بجنودها وعديدها وعتادها. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى منع إسرائيل من الردّ على الصواريخ العراقية المحدودة التي أُطلقت باتجاهها، وتجنبت الولايات المتحدة استخدام المجال الجوي للعدو الصهيوني في تحرّكاتها العسكرية، وامتنعت أيضًا عن استخدام مخزونها من العتاد لديه، حتى لا تثور أدنى شبهة بمساهمة إسرائيلية ما في هذه الحرب، وكان أقصى ما فعلته الولايات المتحدة أن أرسلت بطاريات صواريخ باتريوت بأطقم أميركية لحمايتها.
منذ عام 1990، انهارت تمامًا نظرية الشرطي الإسرائيلي، وفقدت إسرائيل دورها المأمول في المنطقة العربية. وأصبح لزامًا على القوى الإمبريالية أن تتدخل مباشرة في حال تعرّض مصالحها للخطر.
هل ثمّة رابط بين تصريح ترامب وما يجري من تطبيع لبعض الأنظمة العربية الرسمية مع إسرائيل، والسعي إلى إقامة تحالف مشترك معها ضدّ أخطار داخلية وإقليمية قد تتهدد هذا البعض؟ أغلب الظن أنه يأتي ضمن هذا السياق، وضمن إعادة تأهيل إسرائيل لدور شرطي المنطقة من جديد، وهي رسالة باتجاهين؛ الأول موجّه لدول المنطقة بأنّ ثمّة متغيرات في السياسة الأميركية، وأنّ بقاء القوات مرتبطٌ بمدى الحماية التي تقدمها لإسرائيل، وعلى هذه الدول كي تشمل نفسها بمظلة هذه الحماية، بعد زوال ما كان سببًا لها، أن تعمّق من علاقتها بإسرائيل. أما الاتجاه الثاني، فموجّه نحو إسرائيل ذاتها، ومفادُه بأنّ ثمة فراغًا أمنيًا قد ينشأ في المنطقة، إذا ما انسحبت القوات الأميركية، وأنّ على إسرائيل أن تملأ هذا الفراغ، وتعود إلى دورها الذي فقدته، ولكن بدعم مباشر من الولايات المتحدة التي تهيئ لها الظروف، كي تكون جزءًا من نسيج المنطقة.
ولأنّ ترامب رجل الصفقات، فإنّ ثمة ثمنًا على إسرائيل أن تدفعه، وهو الانخراط في الحروب التي تتطلبها المصالح الأميركية في منطقتنا، أكان ذلك باتجاه حماية حلفاء الولايات المتحدة، أم الانخراط في حروبٍ مباشرة تصبّ في الاتجاه ذاته، وتخدم تمرير صفقة القرن، كما تعزّز العقوبات التي فرضتها على إيران، عبر مواجهتها في الأطراف، لتقليص حجم نفوذها. وهو هدف ينسجم مع الطموح الصهيوني للتوسع والسيطرة.
ضمن سياسة المغامرة الأميركية، ومحاولة فهمها والتنبؤ بنتائجها، لا تبدو هذه التصريحات بأنها مقدمة لترك منطقتنا لإرادة أهلها، عبر سحب القوات الأميركية الموجودة فيها، بقدر ما هي تأجيج لصراعات، وإشعال لحروب، قد لا يمرّ زمن طويل حتى تندلع شرارتها.
يثير هذا التصريح تساؤلات شتى عن الهدف المعلن منه، وعن ربط استمرار تموضع القوات الأميركية في المنطقة، بهدف حماية إسرائيل، وممن هذه الحماية؟ ولماذا على الولايات المتحدة القيام بها؟ وهل فعلًا تحتاج إسرائيل لهذه الحماية، وهي تعتبر نفسها أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط؟ وهل تضاءلت أهمية النفط الشرق الأوسطي إلى درجة أنّ الإدارة الأميركية لم تعد يعنيها حمايته، والسيطرة عليه، والتحكم بأسعاره وعائداته المالية؟ وما هي النقطة التي إن وصل إليها لن يحتاج بعدها لإبقاء قواعده العسكرية في المنطقة؟
في الوقت الراهن، تعتمد الولايات المتحدة على إنتاجها من النفط الصخري، لزيادة مخزونها من النفط، والاستغناء عن مصادره الخارجية. وتبلغ كلفة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة من 30 دولاراً إلى 60 دولاراً، بحسب مناطق إنتاجه. وفي المتوسط، تتراوح هذه الكلفة ما بين 35 - 40 دولاراً أميركيَّاً للبرميل. وقد انخفضت تكلفة الإنتاج في الأعوام الأخيرة نتيجة التطور التكنولوجي.
تعني هذه المعادلة أنّ للولايات المتحدة مصلحة في استمرار التحكم بسعر برميل النفط العالمي، بحيث لا يقترب من كلفة إنتاج البرميل الصخري، فلا ينخفض عن سعر 40 دولاراً للبرميل، وإلا فقد جدواه الاقتصادية، وتعرّضت الاستثمارات الأميركية الضخمة في هذا المجال للانهيار، إذ لا تتعلق أهمية النفط للولايات المتحدة باكتفائها الذاتي منه فحسب، بل وبقدرتها على التحكّم بأسعاره، وبتوجيه الجزء الأكبر من عائداته، لما له من تأثير على الاستثمار وأسواق المال العالمية، وعلى استمرار تحكّمها بأسواقه وبتوزيع إنتاجه، بل وباستخدامه أداة ضغط، مثلما حدث مع إيران ومع العراق.
سيبقى الاهتمام بالنفط أولوية لمصالح الولايات المتحدة، سواء حققت اكتفائها الذاتي منه أم لم تتمكّن من ذلك، إلّا أنّ ثمة سؤالًا عن سبب إقحام ترامب لهدف حماية إسرائيل ضمن أوليات الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، بل وباعتباره هذا الهدف هو السبب الوحيد لذلك الانتشار، بعد زعمه بتضاؤل أهمية النفط الشرق أوسطي للولايات المتحدة، وهو سؤالٌ يبدو ملحًّا ستحاول المقالة الإجابة عنه ضمن هذا السياق.
عُرفت إسرائيل منذ قيامها بأنها مخلب قط للمصالح الاستعمارية في المنطقة، وتتمثل مهمتها الرئيسة في القيام بدور شرطي المنطقة الذي يحمل عصا غليظة، ويهدّد جميع محاولات الإفلات من الهيمنة الغربية المباشرة.
أدّت إسرائيل هذا الدور بكفاءة عالية، فقد كان عدوانها على مصر عام 1956 ذريعة الحرب التي شنّتها بريطانيا وفرنسا ضدّ جمال عبد الناصر، بعد تأميمه قناة السويس في ما عُرف باسم العدوان الثلاثي. ومارست سياسة الردع عند محاولات تمرير حلف بغداد، وساهمت هذه السياسة في حماية بعض الأنظمة العربية من تغييرات محتملة في حينه. وحلق الطيران الصهيوني على ارتفاع منخفض فوق المدرعات السورية التي اجتازت الحدود الأردنية في حوادث أيلول/ سبتمبر عام 1970. ودعم الصهاينة الحركات الانفصالية، مثل الحركة الكردية في العراق. كما شكّل التدخل الإسرائيلي المباشر، كما في عدوان عام 1956، أو عبر التلويح بهذا التدخل، عاملًا رئيسًا في سياسة الردع الهادفة إلى منع إحداث متغيراتٍ جذرية في المنطقة، والمحافظة على المصالح الغربية فيها.
لكنّ الرياح سارت على عكس ما تشتهي السفن الصهيونية عام 1990 عند اجتياح العراق للكويت. يومها لم يكن بمقدور هذا الكيان أن يتدخّل، واضطرت الولايات المتحدة أن تحشد أكثر من نصف مليون جندي نقلتهم جوًا وبحرًا، وأن تقيم تحالفًا دوليًا استُثنيت منه إسرائيل، لإرغام النظام العراقي على الانسحاب من الكويت، وأن تشنّ الحرب عليه مباشرةً بجنودها وعديدها وعتادها. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى منع إسرائيل من الردّ على الصواريخ العراقية المحدودة التي أُطلقت باتجاهها، وتجنبت الولايات المتحدة استخدام المجال الجوي للعدو الصهيوني في تحرّكاتها العسكرية، وامتنعت أيضًا عن استخدام مخزونها من العتاد لديه، حتى لا تثور أدنى شبهة بمساهمة إسرائيلية ما في هذه الحرب، وكان أقصى ما فعلته الولايات المتحدة أن أرسلت بطاريات صواريخ باتريوت بأطقم أميركية لحمايتها.
منذ عام 1990، انهارت تمامًا نظرية الشرطي الإسرائيلي، وفقدت إسرائيل دورها المأمول في المنطقة العربية. وأصبح لزامًا على القوى الإمبريالية أن تتدخل مباشرة في حال تعرّض مصالحها للخطر.
هل ثمّة رابط بين تصريح ترامب وما يجري من تطبيع لبعض الأنظمة العربية الرسمية مع إسرائيل، والسعي إلى إقامة تحالف مشترك معها ضدّ أخطار داخلية وإقليمية قد تتهدد هذا البعض؟ أغلب الظن أنه يأتي ضمن هذا السياق، وضمن إعادة تأهيل إسرائيل لدور شرطي المنطقة من جديد، وهي رسالة باتجاهين؛ الأول موجّه لدول المنطقة بأنّ ثمّة متغيرات في السياسة الأميركية، وأنّ بقاء القوات مرتبطٌ بمدى الحماية التي تقدمها لإسرائيل، وعلى هذه الدول كي تشمل نفسها بمظلة هذه الحماية، بعد زوال ما كان سببًا لها، أن تعمّق من علاقتها بإسرائيل. أما الاتجاه الثاني، فموجّه نحو إسرائيل ذاتها، ومفادُه بأنّ ثمة فراغًا أمنيًا قد ينشأ في المنطقة، إذا ما انسحبت القوات الأميركية، وأنّ على إسرائيل أن تملأ هذا الفراغ، وتعود إلى دورها الذي فقدته، ولكن بدعم مباشر من الولايات المتحدة التي تهيئ لها الظروف، كي تكون جزءًا من نسيج المنطقة.
ولأنّ ترامب رجل الصفقات، فإنّ ثمة ثمنًا على إسرائيل أن تدفعه، وهو الانخراط في الحروب التي تتطلبها المصالح الأميركية في منطقتنا، أكان ذلك باتجاه حماية حلفاء الولايات المتحدة، أم الانخراط في حروبٍ مباشرة تصبّ في الاتجاه ذاته، وتخدم تمرير صفقة القرن، كما تعزّز العقوبات التي فرضتها على إيران، عبر مواجهتها في الأطراف، لتقليص حجم نفوذها. وهو هدف ينسجم مع الطموح الصهيوني للتوسع والسيطرة.
ضمن سياسة المغامرة الأميركية، ومحاولة فهمها والتنبؤ بنتائجها، لا تبدو هذه التصريحات بأنها مقدمة لترك منطقتنا لإرادة أهلها، عبر سحب القوات الأميركية الموجودة فيها، بقدر ما هي تأجيج لصراعات، وإشعال لحروب، قد لا يمرّ زمن طويل حتى تندلع شرارتها.