من يكره الجيش ومن يحبه؟

من التهم المُعلّبة التي يحفظها جمهور الانقلاب العسكري في مصر، عن ظهر قلب، ويفجرها في وجه كل رافضي الانقلاب، أو رافضي حكم العسكر، بصفة عامة، عندما يعجزون عن إقامة حجتهم التي تبرر لهم رفض الحياة على أرض الوطن بكرامة وحرية وإرادة ومسؤولية، والقبول بحياة يختصرونها في المأكل والمشرب، تهمة كراهية الجيش، الذي يفترض في من يحبه أن يكون مؤيداً لمن يستخدمه في الحكم، أو ينحرف به إلى ما هو دون ذلك، من دون رفض أو نقد أو اعتراض، ولو كان ذلك الجيش يخالف الأصل الذي وجد من أجله، في حماية الحدود والتراب الوطني، طبعاً وفق عقيدة الدولة القُطرية التي أسستها اتفاقية سايكس ـ بيكو، ويلعب دوراً ليس دوره بتطلعه إلى شؤون الحكم وأعمال السياسة.

 من يكره الجيش في الحقيقة هو الذي يدفعه بتأييده له، أو تأييد قادته الذين يغامرون به، إلى تكرار السيناريو ذاته الذي كان عليه ذلك الجيش قبل الهزيمة الساحقة التي تعرض لها على يد دولة الاحتلال الصهيوني في 1967، والتي لم تكن إلا نتيجة طبيعية ومنطقية لاشتغال وانشغال الجيش، في ذلك الوقت، بالعمل السياسي على كل المستويات، وقد شهد بذلك أحد أهم رجال القوات المسلحة في القرن الماضي، المشير محمد عبد الغني الجمسي، الذي قال عن أسباب الهزيمة "الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي قط، وسبب هزيمتنا في 67، هو انشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة، واشتغالهم بها، فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة".

ومن يكره الجيش هو الذي يؤيد قائده الساعي إلى تحقيق أحلامه الخاصة، وبناء مجده الشخصي، ولو لم يكن أهلاً لتحقيق أدنى أنواع المجد، ويستخدم الجيش لتحقيق مآربه، على الرغم من أنه يدرك خطورة العودة بالجيش إلى العمل السياسي من جديد، ومن الطريف أنه صرح قبل أن يقوم بالانقلاب الغاشم، ويؤسس لطبعة جديدة من دولة العسكر، أن عودة الجيش إلى السياسة تعني عودة مصر ثلاثين أو أربعين عاماً إلى الوراء، وقد كان، وعادت مصر إلى ما هو أبعد من ذلك.

ومن يكره الجيش، أيضاً، هو من يساهم ويساعد في تغيير عقيدة الجيش القتالية التي توجب على قواته التفرغ لحماية الحدود من كل خطر خارجي، والاستعداد الكافي لتوجيه البندقية إلى صدور المعتدين، ويستبدلها بتوجيه البندقية إلى صدور المعترضين من أبناء الوطن على استخدام الجيش في السياسة، خوفاً وحفاظاً عليه، لما يورث هذا التورط المجتمع انشقاقاً وشرخاً في نسيجه الاجتماعي، ويجعل لبعض أبناء الوطن ثأراً على من اعتدى على أهاليهم وذويهم، لمجرد أنهم يريدون الحفاظ على الجيش، حباً فيه، برفضهم الدور الذي لم يخلق له. 

كما أن الجيش، الذي يدّعي حبه جمهور الانقلاب، ليس الذي يتصورونه عن جهل، على أنه القادة الذين يربطون وجوده بوجودهم، فالجيش الوطني ليس مجموعة مرتزقة حتى يتهدم بإزاحة قائد أو قادة كما يظنون. الجيش لا يزول بزوال رئيس أو نظام، إنه المواطن الجندي في المقام الأول، والذي تخرجه كل بيوت الشعب زكاة للجهاد والدفاع عن الأرض والعرض، وليس كرمى للانقلاب وقائده.

ولو أدرك جمهور الانقلاب هذه الحقيقة التي لا يريدون رؤيتها، لتبين لهم أنهم أكثر الناس كراهية للجيش، وإن كانوا يحبونه، فحبهم هذا كحب الدبّة التي قتلت صاحبها، ولتبين لهم أيضاً أن من تم قتلهم وسجنهم ومطاردتهم لرفضهم عودة الجيش إلى السياسة، هم الأكثر حباً للجيش الذي يريدون له أن يكون كما كان، قبل تأسيس دولة العسكر الأولى في 1954، وكما يجب أن يكون مؤسسة وطنية عريقة، تحمي الوطن، وتسهر على سلامة أراضيه، من دون أن تنغمس في وحل مغانم سياسية أو اقتصادية، أو تنحاز إلى فصيل في المجتمع ضد فصيل آخر، كما حدث بعد الانقلاب الذي يدّعى جمهوره حبه الكاذب للجيش، وهم أكثر الكارهين له.