لم تتوقف نقاشات الرياضة في المسابقة الكبرى على الصعيد الكروي عند حدود الملاعب وما يجري فيها، إذ تجاوزتها لتطاول التاريخ الاستعماري لدولة كل منتخب من المنتخبات المشاركة، ولعل تجلّيات هذه النقاشات تركزت حول التاريخ السياسي والاستعماري لمنتخبات مثل فرنسا وألمانيا وإنكلترا وبنسبة أقل لبلجيكا التي غادرت هي الأخرى المسابقة، فضلاً عن استدخالات لا مناص منها للسياسة في اللعبة وما يجري داخل أسوارها.
وإذا كانت حرفة استدعاء التاريخ الاستعماري الثقافوي ومحاكمته تظهر جلية كصنعة للمهزومين من صنائع الاستعمار نفسه، في إطار ما بات يعرف بمحاكمة التاريخ وكاتبيه بالأثر الرجعي، لصيقة وعي مهزوم، ينتهز لحظات غير سياسية للقصاص من الخصوم، لم تكن وليدة لحظة المونديال الحالي، ولا حكراً على العرب، كتجلٍ صارخ للهزيمة في تجليات أبعادها المستمرة والمتواصلة.
لكن، وبعيداً عن العرب، هل يمكن حقاً التحرر من استدخالات السياسية في كرة القدم وتشجيعها؟ وهل يمكن الوصول إلى مستويات الدرجة الصفر على مستوى التخلص من المشاعر المحتقنة بفعل الحروب والاعتداءات والظلم التاريخي الذي حل بالمهزومين والمنتصرين على حد سواء؟
تبدو الرياضة بريئة كل البراءة مما صنعه الإنسان، على مدار تاريخه الطويل من الظلم والاعتداء وامتهان أبسط قواعد جيرة الإنسان للإنسان، لكن الرياضة، في شكلها الأعمّ، وكرة القدم على وجه الخصوص، باعتبارها اللعبة الشعبية الأولى بالإجماع في كل العالم، المناسبة الوحيدة التي تتقن مهارات استدخالها في السياسة واستدعاء أوجاع الماضي، بما تحمله من جروح وأضغان وإحساس بالظلم.
فضلاً عن أسئلة الحاضر التي تبدو أكثر إلحاحاً من أي شيء آخر، وخصوصاً للدولة المستضيفة، روسيا، التي لا تبدو مكترثة بأسئلة السياسة والأخلاق، ولا سيما منذ تورطها في لعبة "صراع النفوذ" في منطقتنا، واستغلالها لأزمات ما بعد الربيع العربي.
من جانبهم، يظهر العرب، وقد خسروا كل معاركهم الكبرى في الملاعب وخارجها، أكثر انشغالاً بهزائم خصومهم الرياضية كتعويض مهزوم عن الخسارات كلها. ولعل استبشار كثيرين بتأهل أربعة منتخبات عربية دفعة واحدة، إلى تصفيات كأس العالم، سرعان ما ذاب في بحيرة داكنة من الفشل، بعد أن كشفت أحداث كأس العالم الجارية حالياً، ومن جملة ما كشفت، هشاشة الاستعدادات العربية وقصور إمكاناتها للمناسبة الأهم على صعيد العالم، إذ خرجت المنتخبات العربية تباعاً من الدور الأول، بل وخرجت معظم هذه المنتخبات بدون تحقيق فوز وحيد باستثناء تونس التي فازت على منتخب بنما المتواضع، والسعودية التي حققت فوزها الوحيد على منتخب مصر الذي بدوره خيّب آمال الكثيرين، وهي "انتصارات" بالمناسبة لم تصنع فرقاً لصالح تأهل هذه المنتخبات للأدوار التالية.
ولعل خروج المنتخبات العربية مبكراً من المسابقة، ساهم في تحرير كثيرين من السطوة العاطفية لتشجيع المنتخبات الوطنية العربية وما رافق خروجها من مشاعر الإحباط ومتلازمة الفشل العميقة، لكن المفاجأة الكبرى التي خففت من وطأة خروج منتخبات العرب كانت في خروج المنتخبات الكبرى واحداً تلو الآخر، فبعد خروج منتخب ألمانيا المدوي، تبعه منتخب الأرجنتين وإسبانيا، ثم البرتغال، فالبرازيل، لتجد المسابقة نفسها أمام منتخبات من الصف الثاني على صعيد القارة العجوز.
لكن نهائي الاحتفال الكروي لن يأتي كما يأمل كثيرون، محمولاً على روح صراع القارات، المهجوس أصلاً بحسابات الماضي ورواسبه، بل جاء بالأقل من حسابات العاطفة، والكثير من اللعبة، بعد أن خرجت أميركا اللاتينية جمعاء، و"ماما أفريكا" وآسيا كلها.
في النهاية، لا تظهر فرنسا صاحبة التاريخ الأقبح على صعيد الاستعمار وما طاول منطقتنا من حمولة الاستشراق في خطابها، معتذرة عن تاريخها الاستعماري وهي تقدّم إلى الشاشات والملاعب رزمة من لاعبين تغلب عليهم البشرة السوداء والداكنة، بل تبدو أكثر تكيّفاً وارتياحاً ومرونة في قدرتها على تجاوز فجاجة أدوات القرن التاسع عشر، مستفيدة من صعود مفاهيم على حساب مفاهيم بائدة، ومصالح أجبرت على خوض غمارها ضمن شروط عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أمام المنتخب الكرواتي الذي يظهر بريئاً من تهم وحولة التاريخ والأكثر حصداً لتعاطف بعض المشجعين العرب، باعتبارها أيضاً دولة عانت مرارة المذبحة المروّعة في تجلياتها الأقسى، على امتداد سنوات القرن العشرين 1941 - 1995، بالإضافة إلى أنه، أي المنتخب الكرواتي، وقد وصل إلى المسابقة بشق الأنفس، وحقق عن جدارة لقب الحصان الأسود في المناسبة ومفاجآته الأبهى، لا يظهر مستفيداً من الحظوظ بقدر انشغاله بالقتال وبغضّ النظر عن الطرف المقابل، ليحقق شروط حصوله على تعاطف من ينتظرون البطل الذي سيهزم الوحش أخيراً.