في بداية "الانقلاب" الدراماتيكي (الشروع بتغيير مسار حياتهم)، سمح الشبان الألمان الـ5 ـ أجيت وأحمد وبارهام وكيانوش وسنان، وجميعهم من أصول شرقية مختلفة ـ للمخرج السويسري نويل دِرنيش ومساعده الألماني أولي فالدهاور بتسجيل جانبٍ من تفاعلات مجرياته (الانقلاب). بقبولهم، بدوا كأنّهم هم من قرّر تصوير فيلمٍ خاص بهم، لا صانعوه، فخدموا بذلك مخرِجَيه، بجعل "واقع آخر" (2019) ـ الفائز بجائزة الجمهور في الدورة الـ34 (6 ـ 17 مايو/ أيار 2019) لـ"مهرجان دوك. فَست ميونخ للأفلام الوثائقية"، والمعروض في الدورة الـ3 (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ أحد أندر الوثائقيات وأفضلها، التي نقلت على لسان ألمان من أصول مهاجرة، دخلوا عالم الجريمة، حِدّة التعقيدات الوجودية المحيطة بهم، والمناخات المتناقضة التي يعشيون فيها، والتي تدفعهم عنوة إلى التوافق معها، بلغةٍ متخلّصة من الخوف وحرية تحرّك كاملة. كأنّهم، طوال زمن تصويرهم، موجودون وحدهم، لا غريب بينهم، ولا أحد خارجهم يُمكنه الاستماع إلى بوحهم ومعرفة أسرارهم.
وفق هذا المتوافر النادر، كان لا بُدّ من إمساك اللحظة الآنية، ومعرفة ما سبقها، ولا بأس بـ"تخمين" ما ينتظرهم بعدها.
يُقرّ العنوان (واقع آخر) بوجود واقعين. التوصيف الأخير لم يأتِ من خارجهم. تتردّد العبارة كثيراً بين ثنايا كلامهم. هي، بالنسبة إليهم، مصدر أوجاع كثيرة لهم. يُخبرون سامعهم عبرها كيف ترتبك حياة مَنْ يعيش أكثر من واقع. الواقع الآخر عبءٌ عليهم غالباً. يضعهم في خانة "الشواذ" المختلفين. تزداد حدّة التوصيف وقسوته كلّما ابتعدوا عن المركز القوي، وظلوا خارجه، يدورون من دون مستقرّ في فلكه.
يُمكن أن يكون هذا حال المهاجرين الألمان عامة. لكنّ الاشتغال السينمائي معنيٌّ بفئة أخرى، أضحى حال أفرادها أعقد، بعد ما ارتكبوه من أفعال وجرائم، ضاعفت "حُكم" الآخر عليهم، وزادت عزلتهم بسببها.
من المكوث الطويل مع الشباب وملاحقة تحرّكاتهم بين مدن ألمانية عدّة، ومن أحاديث طويلة وأحداث يومية، كان ينبغي استخلاص ما هو مفيد من الخامات التصويرية (فريده كلاوس)، وترتيبها وفق سياق سردي يجسّد بدقّة فرادة الشخصيات، التي أُريد لها أن تُشَكّل في النهاية وحدة درامية، رغم اختلاف تكوين كلّ واحدة منها. جزءٌ كبير من ذلك وقع على عاتق التوليف، ووضعه تحت ضغط الاختيار. فكثرة الخامات، كقلّتها، تُصعّب المهمة، خاصة عندما تكون مُشبعة بتعابير وانفعالات تصبّ في خدمة المُنجز، وتُغْني مضمونه. عندها، يلازم المشتغلُ على تصفيتها (غيسا يَجر) إحساساً بالخسارة، وبضرورة إبقاء الكثير منها. لم يهتم المخرجان لـ"الخسارة"، وقرّرا التزام مدة زمنية معقولة (98 دقيقة) تكفي لإيصال كلّ ما يُراد إيصاله من تجربة شبان بدأ بعضهم، عند الشروع بالتصوير، بتغيير نمط حياته، والتفكير في إجراء مراجعة ذاتية مسؤولة لها. فالتجربة المعاشة أوصلتهم إلى ذلك.
شكّلت الشخصيات الـ5 وحدات "مجتمعية" صغيرة ومتفرّقة. يتشابهون في هيئاتهم الخارجية (عضلات مفتولة بفعل تناول عقاقير منشّطة، وبعضهم بلحى طويلة) تؤشّر على تعمّد في إظهار "الاختلاف"، والرغبة في إشاعة الخوف عند الآخر. عند الحديث عن الماضي، يجد كلّ واحد منهم لنفسه أعذاراً تكفي لتبرير ما قام به. يردّدون دائماً عبارة دالّة: "حجم الإغراء بالثروة هائل. لا يُقاوَم". لجميعهم دافع واحد، وفي سنّ باكرة: الحصول على المال بأسهل الطرق، إن سرقة واحتيالاً وتجارة مخدّرات، وإذا لزم الأمر ابتزازاً وتهديداً. هذا كلّه على عكس حواراتهم عن ذواتهم المتنازعة، ومشاعرهم إزاء ما يحيط بهم راهناً. كلامهم عنها يشي بوجع وإحساس بندم على عمر قضوا وطراً منه في السجون، بعيداً عن عوائلهم. يلاحقهم الخوف من المتربّصين بهم.
اقــرأ أيضاً
يشرع كلّ واحد منهم، بعد تجربة السجن، بالبحث عن عمل له، أو عن سبيل لتنمية هواية فنية كامنة فيه، تضمن له انقطاعاً عن ماضيه الإجرامي. الإحساس بالعزلة، رغم ذلك، مستمر. قلق الهوية لم ينقطع: بداخل كلّ واحد منهم، هو ألماني الولادة والانتماء، وأجنبيّ سيّئ عند الآخر، متجذّر الأصول. ألماني متأقلم مع عالمه، وعنده واقع واحد.
الحديث عن الفرق بينهم وبين الألماني لا ينتهي. من دون شعور، يدفعهم وضعهم، وكلّ تصرّف منهم، إلى مقارنة أنفسهم بالآخر. في مشهد ساخر يجري في متجر صغير، يقع في ركن شارع، ويمتلكه سنان الذي أسّس حياته الجديدة عليه، يسأل، هو وصديقه، زبوناً ألمانياً عمّا يراه فيهم، وكيف يحكم عليهم من خلال مظهرهم الخارجي. رغم المجاملات، يشير المشهد إلى نقاط اختلاف وأحكام مسبقة تؤشّر على سوءٍ ودناءة يتوقّعان وجودها في ذهنه عنهما، قبل أن يسمعوا رأيه فيهما. عبارات كهذه تكفي، قبل أعوام، لوقوع نزاع معه. اليوم، يأخذ الأمر منحىً آخر، فَكِهاً. علّمتهم التجربة التعامل مع الآخر بطريقة أقل عدائية، وباستخدام الأساليب نفسها لـ"الخصم المتحضّر". لم يعد الغضب من التمييز العنصري والهيكلي السائد يقودهم إلى عنف منفلت، يخسرون فيه أكثر ممّا يربحون. الأجدى منه كامنٌ في البحث عن ذواتهم الخلّاقة، وتشخيص أقوى النقاط فيها.
بارهام صار مغنّي "راب" مشهوراً، يجني أموالاً كثيرة من فنّه. أحمد، الفلسطيني الأصل، عاد إلى عائلته بعد حصوله على عمل. الباقون يتلمّسون طرقاً صعبة، ويحاولون بلوغ عالم يشبه ذاك الذي يعيشه الجار الألمانيّ.
من بين تمظهرات الانقلاب الحياتي لشخصياته، يركّز نويل دِرنيش (1977) أكثر على الموسيقى. يجد فيها رابطاً عضوياً بين المُهاجر والمكان المقيم فيه. من هذا المنظور، عالج في "رحلة إلى جاه" (2013) تجارب مغنّين وموسيقيّين أجانب، أثّروا في الحياة الثقافية الغربية. في الوثائقي الألماني السويسري المشترك، "واقع آخر"، يُكرّس وقتاً أطول لها، تاركاً للأغاني مساحة جيدة، لتمنحهم فرصاً أفضل للتعبير عن جوانيّاتهم. تُسهّل التعبير عن واقعهم، وهذا يحتاجه أبطاله الذين لا يُجيدون جميعهم التعبير باللغة عمّا يجول في خواطرهم، بالمستوى نفسه الذي اعتادوا التعبير عنه جسدياً: بالعنف والحركة العصبيّة، وبقوّة عضلاتهم المفتولة.
تكفّل أولي فالدهاور بنقل المناخ العام الذي كانوا يتحرّكون فيه، بتفاصيله الدقيقة. فهو عارف بقضايا المهاجرين، وبالعنف المتسرّب إلى حياتهم عبر وسائل ودروب متفرّعة، بينها الرياضة، التي رصدها في وثائقيّه "إسطنبول المتحدة"، كما عاين من خلال لعبة كرة القدم كيف ينتقل عنف مشجّعي أنديتها في الملاعب إلى خارجها.
يُلاحظ في أسلوب نقل واقعهم تجنّب أي دافع للتعاطف معهم. مردّ ذلك رغبة صنّاع الفيلم في ترك سلوكهم وحده يعلن تغيّرهم، ومحاولة تكيّفهم مع الواقع، رغم شدّة الندم على سوء فهمه. بالنسبة إلى حاضنتهم، يترك غياب وجود "البيض" بينهم علامة على تمييز متجذّر بين أبناء المجتمع الواحد، يدعو إلى الخجل، وإلى السؤال عن سبب عيش أبنائه "الأصليين" في واقعهم الحقيقي، فيما يُقيم قسم منه في "واقع آخر" موازٍ، يُربك حياتهم ويخلخلها.
يُقرّ العنوان (واقع آخر) بوجود واقعين. التوصيف الأخير لم يأتِ من خارجهم. تتردّد العبارة كثيراً بين ثنايا كلامهم. هي، بالنسبة إليهم، مصدر أوجاع كثيرة لهم. يُخبرون سامعهم عبرها كيف ترتبك حياة مَنْ يعيش أكثر من واقع. الواقع الآخر عبءٌ عليهم غالباً. يضعهم في خانة "الشواذ" المختلفين. تزداد حدّة التوصيف وقسوته كلّما ابتعدوا عن المركز القوي، وظلوا خارجه، يدورون من دون مستقرّ في فلكه.
يُمكن أن يكون هذا حال المهاجرين الألمان عامة. لكنّ الاشتغال السينمائي معنيٌّ بفئة أخرى، أضحى حال أفرادها أعقد، بعد ما ارتكبوه من أفعال وجرائم، ضاعفت "حُكم" الآخر عليهم، وزادت عزلتهم بسببها.
من المكوث الطويل مع الشباب وملاحقة تحرّكاتهم بين مدن ألمانية عدّة، ومن أحاديث طويلة وأحداث يومية، كان ينبغي استخلاص ما هو مفيد من الخامات التصويرية (فريده كلاوس)، وترتيبها وفق سياق سردي يجسّد بدقّة فرادة الشخصيات، التي أُريد لها أن تُشَكّل في النهاية وحدة درامية، رغم اختلاف تكوين كلّ واحدة منها. جزءٌ كبير من ذلك وقع على عاتق التوليف، ووضعه تحت ضغط الاختيار. فكثرة الخامات، كقلّتها، تُصعّب المهمة، خاصة عندما تكون مُشبعة بتعابير وانفعالات تصبّ في خدمة المُنجز، وتُغْني مضمونه. عندها، يلازم المشتغلُ على تصفيتها (غيسا يَجر) إحساساً بالخسارة، وبضرورة إبقاء الكثير منها. لم يهتم المخرجان لـ"الخسارة"، وقرّرا التزام مدة زمنية معقولة (98 دقيقة) تكفي لإيصال كلّ ما يُراد إيصاله من تجربة شبان بدأ بعضهم، عند الشروع بالتصوير، بتغيير نمط حياته، والتفكير في إجراء مراجعة ذاتية مسؤولة لها. فالتجربة المعاشة أوصلتهم إلى ذلك.
شكّلت الشخصيات الـ5 وحدات "مجتمعية" صغيرة ومتفرّقة. يتشابهون في هيئاتهم الخارجية (عضلات مفتولة بفعل تناول عقاقير منشّطة، وبعضهم بلحى طويلة) تؤشّر على تعمّد في إظهار "الاختلاف"، والرغبة في إشاعة الخوف عند الآخر. عند الحديث عن الماضي، يجد كلّ واحد منهم لنفسه أعذاراً تكفي لتبرير ما قام به. يردّدون دائماً عبارة دالّة: "حجم الإغراء بالثروة هائل. لا يُقاوَم". لجميعهم دافع واحد، وفي سنّ باكرة: الحصول على المال بأسهل الطرق، إن سرقة واحتيالاً وتجارة مخدّرات، وإذا لزم الأمر ابتزازاً وتهديداً. هذا كلّه على عكس حواراتهم عن ذواتهم المتنازعة، ومشاعرهم إزاء ما يحيط بهم راهناً. كلامهم عنها يشي بوجع وإحساس بندم على عمر قضوا وطراً منه في السجون، بعيداً عن عوائلهم. يلاحقهم الخوف من المتربّصين بهم.
يشرع كلّ واحد منهم، بعد تجربة السجن، بالبحث عن عمل له، أو عن سبيل لتنمية هواية فنية كامنة فيه، تضمن له انقطاعاً عن ماضيه الإجرامي. الإحساس بالعزلة، رغم ذلك، مستمر. قلق الهوية لم ينقطع: بداخل كلّ واحد منهم، هو ألماني الولادة والانتماء، وأجنبيّ سيّئ عند الآخر، متجذّر الأصول. ألماني متأقلم مع عالمه، وعنده واقع واحد.
الحديث عن الفرق بينهم وبين الألماني لا ينتهي. من دون شعور، يدفعهم وضعهم، وكلّ تصرّف منهم، إلى مقارنة أنفسهم بالآخر. في مشهد ساخر يجري في متجر صغير، يقع في ركن شارع، ويمتلكه سنان الذي أسّس حياته الجديدة عليه، يسأل، هو وصديقه، زبوناً ألمانياً عمّا يراه فيهم، وكيف يحكم عليهم من خلال مظهرهم الخارجي. رغم المجاملات، يشير المشهد إلى نقاط اختلاف وأحكام مسبقة تؤشّر على سوءٍ ودناءة يتوقّعان وجودها في ذهنه عنهما، قبل أن يسمعوا رأيه فيهما. عبارات كهذه تكفي، قبل أعوام، لوقوع نزاع معه. اليوم، يأخذ الأمر منحىً آخر، فَكِهاً. علّمتهم التجربة التعامل مع الآخر بطريقة أقل عدائية، وباستخدام الأساليب نفسها لـ"الخصم المتحضّر". لم يعد الغضب من التمييز العنصري والهيكلي السائد يقودهم إلى عنف منفلت، يخسرون فيه أكثر ممّا يربحون. الأجدى منه كامنٌ في البحث عن ذواتهم الخلّاقة، وتشخيص أقوى النقاط فيها.
بارهام صار مغنّي "راب" مشهوراً، يجني أموالاً كثيرة من فنّه. أحمد، الفلسطيني الأصل، عاد إلى عائلته بعد حصوله على عمل. الباقون يتلمّسون طرقاً صعبة، ويحاولون بلوغ عالم يشبه ذاك الذي يعيشه الجار الألمانيّ.
من بين تمظهرات الانقلاب الحياتي لشخصياته، يركّز نويل دِرنيش (1977) أكثر على الموسيقى. يجد فيها رابطاً عضوياً بين المُهاجر والمكان المقيم فيه. من هذا المنظور، عالج في "رحلة إلى جاه" (2013) تجارب مغنّين وموسيقيّين أجانب، أثّروا في الحياة الثقافية الغربية. في الوثائقي الألماني السويسري المشترك، "واقع آخر"، يُكرّس وقتاً أطول لها، تاركاً للأغاني مساحة جيدة، لتمنحهم فرصاً أفضل للتعبير عن جوانيّاتهم. تُسهّل التعبير عن واقعهم، وهذا يحتاجه أبطاله الذين لا يُجيدون جميعهم التعبير باللغة عمّا يجول في خواطرهم، بالمستوى نفسه الذي اعتادوا التعبير عنه جسدياً: بالعنف والحركة العصبيّة، وبقوّة عضلاتهم المفتولة.
تكفّل أولي فالدهاور بنقل المناخ العام الذي كانوا يتحرّكون فيه، بتفاصيله الدقيقة. فهو عارف بقضايا المهاجرين، وبالعنف المتسرّب إلى حياتهم عبر وسائل ودروب متفرّعة، بينها الرياضة، التي رصدها في وثائقيّه "إسطنبول المتحدة"، كما عاين من خلال لعبة كرة القدم كيف ينتقل عنف مشجّعي أنديتها في الملاعب إلى خارجها.
يُلاحظ في أسلوب نقل واقعهم تجنّب أي دافع للتعاطف معهم. مردّ ذلك رغبة صنّاع الفيلم في ترك سلوكهم وحده يعلن تغيّرهم، ومحاولة تكيّفهم مع الواقع، رغم شدّة الندم على سوء فهمه. بالنسبة إلى حاضنتهم، يترك غياب وجود "البيض" بينهم علامة على تمييز متجذّر بين أبناء المجتمع الواحد، يدعو إلى الخجل، وإلى السؤال عن سبب عيش أبنائه "الأصليين" في واقعهم الحقيقي، فيما يُقيم قسم منه في "واقع آخر" موازٍ، يُربك حياتهم ويخلخلها.