حتى سنوات قليلة مضت، كانت الأحياء الشعبية في باريس حكراً على متسوّلين مغاربيين وسود وغجر. وكان حيّ باربيس شبه عاصمة لهم. في كل ركن، بالقرب من المتاجر والمخابز، أو عند مداخل المترو، أو أمام المساجد خصوصاً في أيام الجمعة، لا بدّ للمرء أن يحذر. هنا، يكثر النشل والسرقات الصغرى. "في سبيل الله".. كلمات استعطاف تُنطق بالعربية. حتى الغجر تعلموا بعض الكلمات، لحين الحاجة.
في منطقة غير بعيدة، عند التقاء محطتَي الشمال (غار دو نور) والشرق (غار دو لِسْت) للمترو والقطارات في قلب باريس، يستوقفك متسوّلون عرب ويتوجهون إليك - إذا اكتشفوا ملامحك العربية - بكلمات عربية فيها كثير من الإلحاح والاستعطاف.
التسوّل غير مقبول في فرنسا، لكنّ السلطات تغضّ الطرف عنه إلا في بعض المناطق السياحية، حيث تحاربه. ويطارد رجال الشرطة المتسوّلين هناك ويحتجزونهم أحياناً، إذ لا يُراد تشويه الصورة المعروفة عن البلاد كواحدة من أبرز وجهات السياحة في العالم.
إلى ذلك، تخشى السلطات الفرنسية من تحكّم بعض عصابات المافيا بالتسوّل، خصوصاً الرومانية والبلغارية. وكثيراً ما فكّكت السلطات الفرنسية شبكات تلجأ فيها هذه العصابات إلى استخدام الأحداث القاصرين في هذه النشاطات المربحة، في التسوّل أو النشل أو السرقة. وكثيراً ما يُحذَّر السائح من أنّ في محطة المترو هذه أو تلك، ينشط قاصرون بارعون في ذلك.
في السنتين الأخيرتين، مع تدفّق المهاجرين واللاجئين، راح الفرنسيون يتأقلمون مع واقع جديد ومع سحنات جديدة ولهجات لم تكن معروفة من قبل. كذلك، نصبت خيم كثيرة لتصبح جزءاً من المشهد الجديد على أطراف العاصمة. فيها يعيش إرتريون وأفغان وغجر وسوريون وسودانيون وغيرهم.
في هذه الأيام، يكثر المتسوّلون السوريون في شوارع حيّ باربيس، فينتشرون على الأرصفة مع أبنائهم ويمدّون أيديهم للمارة. كذلك، لا يمكن للمسافر إلا أن يصادف في ردهات وممرات محطة مترو الشرق (غار دو لِسْت) متسوّلين سوريين يتوجهون إليه فيما يلعب ويقفز أبناؤهم في كل اتجاه. الأمر نفسه يتكرر في أكثر من محطة، وسط التفاتات من قبل البعض ولا مبالاة من قبل كثيرين.
سألت "العربي الجديد" كثيرين، معظمهم من السوريين، عن سبب خروجهم إلى الشوارع للتسوّل فيما تعلن منظمات إنسانية كثيرة عن عمليات إغاثة طالبي لجوء ولاجئين من حين إلى آخر. ردّ البعض أنّ "مساعدات عديدة تتضمن طعاماً لا يُؤكل". أما أحمد، وهو سوري ينتظر منذ ثمانية أشهر أوراق إقامته، فيسأل: "ماذا أفعل حتى أنام وأغتسل كما يفعل البشر؟ لا حياة خاصة لنا... سئمت العيش في هذه الخيم الصغيرة".
إلى ذلك، لا يمكن إلا ملاحظة المعوزين والمتسوّلين عند أبواب المساجد المنتشرة في أحياء باريس. ومن يقصد مسجد باريس الكبير (شيّد عام 1926) في المقاطعة الخامسة، لا يمكنه تفويت هؤلاء، خصوصاً في أيام الجمعة والأعياد الإسلامية.
تشكو أم حسن، وهي سورية من حمص، لـ"العربي الجديد"، من التعب من جرّاء الوقوف في طوابير أمام الجمعيات المكلفة بتقديم الطعام. ولأنها تعرف مساجد كثيرة في باريس ومحيطها، "رحت أغالب كبريائي وكرامتي لأستعطف أبناء ديني". وتقول: "لم أستجدِ أحداً من قبل في سورية... لكنّ سورية بعيدة".
تجدر الإشارة إلى أنّ في مساجد عديدة، يطلب أحياناً الأئمة عند الانتهاء من الصلاة، التعاطف مع إخوانهم. كذلك، قد يهبّ أحدهم (بعد موافقة الإمام أحياناً) ليخاطب ضمائر المحسنين، مستحضراً مآسي سورية وشعبها. لا شكّ أنّ الجالية العربية الإسلامية تنظر بكثير من التعاطف إلى هؤلاء الذين فُرضت عليهم مغادرة بلادهم رغماً عنهم، فهاجروا وراحوا يتحملون العذابات والإهانات. بالنسبة إلى عدد كبير من المصلّين، الفرق كبير بين هؤلاء السوريين وبعض العراقيين وبين الذين امتهنوا التسوّل منذ عقود. ويؤكد إمام مسجد الإصلاح في مونتروي، الذي يَشهد يومياً توافد سوريين كثيرين من نساء وأطفال ورجال، "أسبقية هؤلاء في الصدقة والتكافل". يضيف لـ"العربي الجديد": "ارحموا عزيز قوم ذلّ".
على الرغم من صعوبة الأوضاع في فرنسا، لا سيما الأمنية مع حالة الطوارئ المستمرة التي تحكم كثيراً من الأنشطة السياسية والمطلبية، إلا أنّ المنظمات المعنية بمساعدة اللاجئين والمهاجرين تواصل أنشطتها. وفي هذا الإطار، نُظم لقاء السبت الماضي في ساحة الجمهورية في باريس، بالتزامن مع لقاءات نظمت في 122 مدينة في العالم من أجل المطالبة بحماية حقيقية لطالبي اللجوء طوال مسار تنقلهم، ووقف مصادرة أموالهم عند الحدود، واحترام الحق في الحياة الخاصة للاجئين، وأخيراً حرية اللاجئين في التنقل والاستقرار. لكن المستغرب هو أنّ هذا النشاط تضمّن شهادات صادمة من طالبي لجوء ولاجئين إرتريين وسودانيين وأفارقة من الصحراء والساحل، في حين غاب عنه العراقيون والسوريون، كأنما الأمر لا يعنيهم.